الثلاثاء، 10 نوفمبر 2015

مختارات من مدارج السالكين (2). المجلد الثالث. ط الثانية 1424، ت. الشيخ بشير عيون. مع الاستعانة بالمكتبة الشاملة

- وَهَذَا الْوُجُودُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَتَنَوَّعُ بِحَسْبِ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامِهِ، فَإِنَّ التَّائِبَ الصَّادِقَ فِي تَوْبَتِهِ إِذَا تَابَ إِلَيْهِ، وَجَدَهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُتَوَكِّلَ إِذَا صَدَقَ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَجَدَهُ حَسِيبًا كَافِيًا، وَالدَّاعِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا، وَالْمُحِبَّ إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَجَدَهُ وَدُودًا حَبِيبًا، وَالْمَلْهُوفَ إِذَا صَدَقَ فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِهِ وَجَدَهُ كَاشِفًا لِلْكُرَبِ مُخَلِّصًا مِنْهُ، وَالْمُضْطَرَّ إِذَا صَدَقَ فِي الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ وَجَدَهُ رَحِيمًا مُغِيثًا، وَالْخَائِفَ إِذَا صَدَقَ فِي اللجأ إِلَيْهِ وَجَدَهُ مُؤَمِّنًا مِنَ الْخَوْفِ، وَالرَّاجِيَ إِذَا صَدَقَ فِي الرَّجَاءِ وَجَدَهُ عِنْدَ ظَنِّهِ بِهِ.فَمُحِبُّهُ وَطَالِبُهُ وَمُرِيدُهُ الَّذِي لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا، وَلَا يَرْضَى بِسِوَاهُ عِوَضًا، إِذَا صَدَقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَجَدَهُ أَيْضًا وُجُودًا أَخَصَّ مِنْ تِلْكَ الْوُجُودَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرِيدُ مِنْهُ يَجِدُهُ، فَكَيْفَ بِمُرِيدِهِ وَمُحِبِّهِ؟ فَيَظْفَرُ هَذَا الْوَاجِدُ بِنَفْسِهِ وَبِرَبِّهِ.

أَمَّا ظَفَرُهُ بِنَفْسِهِ فَتَصِيرُ مُنْقَادَةً لَهُ، مُطِيعَةً لَهُ، تَابِعَةً لِمَرْضَاتِهِ غَيْرَ آبِيَةٍ، وَلَا أَمَّارَةٍ، بَلْ تَصِيرُ خَادِمَةً لَهُ مَمْلُوكَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْدُومَةً مَالِكَةً.

وَأَمَّا ظَفَرُهُ بِرَبِّهِ فَقُرْبُهُ مِنْهُ وَأُنْسُهُ بِهِ، وَعِمَارَةُ سِرِّهِ بِهِ، وَفَرَحُهُ وَسُرُورُهُ بِهِ أَعْظَمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، فَهَذَا حَقِيقَةُ اتِّصَالِ الْوُجُودِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. ص271.

- فَاعْلَمْ أَنَّ فِي لِسَانِ الْقَوْمِ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ، وَإِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَإِطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ إِشَارَتِهِ دُونَ حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ: مَا لَيْسَ فِي لِسَانِ أَحَدٍ مِنَ الطَّوَائِفِ غَيْرُهُمْ. ص 276.
- ألف - رحمه الله تعالى - (الصواعق المرسلة) قبل (المدراج ). ص 297.

- وَحُصُولُ الْإِجَابَةِ عُقَيْبَ سُؤَالِ الطَّالِبِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ: دَلِيلٌ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَاتِ . ص 299.

- قَالَ: (بَابُ التَّحْقِيقِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] التَّحْقِيقُ: تَلْخِيصُ مَصْحُوبِكَ مِنَ الْحَقِّ، ثُمَّ بِالْحَقِّ، ثُمَّ فِي الْحَقِّ، وَهَذِهِ أَسْمَاءُ دَرَجَاتِهِ الثَّلَاثِ.
وَجْهُ تَعَلُّقِهِ بِإِشَارَةِ الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ الِانْتِقَالَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْعِلْمِ بِإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى إِلَى رُؤْيَةِ تَحْقِيقِهِ عِيَانًا، فَطَلَبَ - بَعْدَ حُصُولِ الْعِلْمِ الذِّهْنِيِّ - تَحْقِيقَ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعِيَانِ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» إِذْ قَالَ {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يَشُكَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَشُكَّ، وَلَكِنْ أَوْقَعَ اسْم
" الشَّكِّ " عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْعِلْمِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَرْتَبَةِ الْعِيَانِ فِي الْخَارِجِ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ سُمِّيَ الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ - قَبْلَ مُشَاهَدَةِ مَعْلُومِهِ - ظَنًّا، قَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] وَقَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249] وَهَذَا الظَّنُّ عِلْمٌ جَازِمٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223] لَكِنْ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْعِيَانِ فَرْقٌ، وَفِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ» وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ فُتِنَ قَوْمُهُ، وَأَنَّ السَّامِرِيَّ أَضَلَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنَ الْغَضَبِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَإِلْقَاءِ الْأَلْوَاحِ مَا حَصَلَ لَهُ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ. ص329-330. - فَلَا تَجِدُ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّدِيدَ، وَالتَّعْقِيدَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَصْلًا.
وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيَرْتَقِي، وَلَا سَمِينَ فَيَنْتَقِلُ، فَيُطَوِّلُ عَلَيْكَ الطَّرِيقَ، وَيُوَسِّعُ لَكَ الْعِبَارَةَ، وَيَأْتِي بِكُلِّ لَفْظٍ غَرِيبٍ وَمَعْنًى أَغْرَبَ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا وَصَلْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَكَ حَاصِلًا طَائِلًا، وَلَكِنْ تَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا تَرَى طَحْنًا، فَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي جَعَاجِعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَكْوَانِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالْأَحْوَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ، وَالْجِهَاتِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَالْغَيْرَيْنِ وَالْخِلَافَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعَرَضُ هَلْ يَبْقَى زَمَانَيْنِ؟ وَمَا هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ؟ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الْوُجُودَ: هَلْ هُوَ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهَا؟ وَيَعْتَرِفُ: أَنَّهُ شَاكٌّ فِي وُجُودِ الرَّبِّ: هَلْ هُوَ وُجُودٌ مَحْضٌ، أَوْ وُجُودٌ مُقَارِنٌ لِلْمَاهِيَّةِ؟ وَيَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَيَقُولُ أَفْضَلُهُمْ - عِنْدَ نَفْسِهِ - عِنْدَ الْمَوْتِ: أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَرَفْتُ إِلَّا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى وَاجِبٍ، ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَأَمُوتُ وَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ: أَرْبَابُ الْكَلَامِ.
وَآخَرُونَ أَعْظَمُ تَكَلُّفًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَهُمْ: أَرْبَابُ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ وَالْأَسْطُقُّصَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْمُفَارَقَاتِ، وَالْمُجَرَّدَاتِ، وَالْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ، وَالْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَالْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُوَجَّهَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُسَوَّرَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُهْمَلَاتِ، فَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ تَكَلُّفًا، وَأَقَلُّهُمْ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّفُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَأَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَالْبَادِيِ وَالْبَاذِهِ وَالْوَارِدِ، وَالْخَاطِرِ وَالْوَاقِعِ وَالْقَادِحِ وَاللَّامِعِ، وَالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ، وَالْمُحِقِّ وَالْحَقِّ، وَالسُّكْرِ، وَاللَّوَائِحِ وَالطَّوَالِعِ، وَالْعَطَشِ وَالدَّهَشِ، وَالتَّلْبِيسِ، وَالتَّمْكِينِ وَالتَّلْوِينِ، وَالِاسْمِ وَالرَّسْمِ، وَالْجَمْعِ وَجَمْعِ الْجَمْعِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَالْأَثَرِ، وَالْكَوْنِ، وَالْبَوْنِ، وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُسَامَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَالتَّجَلِّي، وَالتَّخَلِّي، وَأَنَا بِلَا أَنَا، وَأَنْتَ بِلَا أَنْتَ، وَنَحْنُ بِلَا نَحْنُ، وَهُوَ بِلَا هُوَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَتَنَطُّعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ لَهُمْ مِثْلُ هَذَا التَّكَلُّفِ وَأَعْظَمُ مِنْهُ.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ، مَوْقُوفُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ، خَاضُوا - بِزَعْمِهِمْ - بِحَارَ الْعِلْمِ، وَمَا ابْتَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ، وَكَدُّوا أَفْكَارَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ، وَمَا اسْتَنَارَتْ بِالْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرُّسُلِ قُلُوبُهُمْ وَأَفْهَامُهُمْ، فَرِحِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ رَاضِينَ بِمَا قُيِّدُوا بِهِ مِنَ الرُّسُومِ، فَهُمْ فِي وَادٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وَادٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَتَجَاوَزْ فِيهِمُ الْقَوْلَ، بَلْ قَصَرْنَا فِيمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولَهُ، فَذَكَرْنَا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ، وَقَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ.
وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ الرَّأْيِ، الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ.
فَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ حَقًّا، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَقَالَ أَيْضًا: أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوهَا، فَاشْتَغَلُوا عَنْهَا بِالرَّأْيِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؟ وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ إِنْ قَلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، «وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى الدِّينِ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِي، أَجْتَهِدُ، وَاللَّهِ مَا آلُو ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ، فَقَالُوا: تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسَدِّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» 
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْمَعَانِي الَّتِي نَجِدُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ تَنَطُّعًا فَلَيْسَ لِلتَّنَطُّعِ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. ص376.

- وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ وَجْهًا، تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ نَفَى الْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ . ص 427.
- فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْأَسْبَابِ ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا: شِرْكٌ، وَالْآخَرُ: عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ،
فَالشِّرْكُ: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهَا وَيَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا، وَيَعْتَقِدَ أَنَّهَا بِذَاتِهَا مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ، فَهُوَ مُعْرِضٌ عَنِ السَّبَبِ لَهَا، وَيَجْعَلُ نَظَرَهُ وَالْتِفَاتَهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا،
وَأَمَّا إِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهَا الْتِفَاتَ امْتِثَالٍ وَقِيَامٍ بِهَا وَأَدَاءٍ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ فِيهَا، وَإِنْزَالِهَا مَنَازِلَهَا: فَهَذَا الِالْتِفَاتُ عُبُودِيَّةٌ وَتَوْحِيدٌ. ص 435.

- (واستعن بالله ولا تعجز) نَهَاهُ عَنِ الْعَجْزِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: تَقْصِيرٌ فِي الْأَسْبَابِ، وَعَدَمُ الْحِرْصِ عَلَيْهَا، وَتَقْصِيرٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ. ص 437 .

- ثُمَّ يَشْهَدُ مِنْ " اهْدِنَا " عَشْرَ مَرَاتِبَ، إِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَتْ لَهُ الْهِدَايَةُ :
الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: هِدَايَةُ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ، فَيَجْعَلُهُ عَالِمًا بِالْحَقِّ مُدْرِكًا لَهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقْدِرَهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ بِنَفْسِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ فَاعِلًا لَهُ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ يُثَبِّتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَسْتَمِرَّ بِهِ عَلَيْهِ.
السَّادِسَةُ: أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ الْمَوَانِعَ وَالْعَوَارِضَ الْمُضَادَّةَ لَهُ.
السَّابِعَةُ: أَنْ يَهْدِيَهُ فِي الطَّرِيقِ نَفْسِهَا هِدَايَةً خَاصَّةً، أَخَصَّ مِنَ الْأُولَى، فَإِنَّ الْأُولَى هِدَايَةٌ إِلَى الطَّرِيقِ إِجْمَالًا، وَهَذِهِ هِدَايَةٌ فِيهَا وَفِي مَنَازِلِهَا تَفْصِيلًا.
الثَّامِنَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقِ، وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونَ مُطَالِعًا لَهُ فِي سَيْرِهِ، مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ، غَيْرَ مُحْتَجَبٍ بِالْوَسِيلَةِ عَنْهُ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ يُشْهِدَهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ.
الْعَاشِرَةُ: أَنْ يُشْهِدَهُ الطَّرِيقَيْنِ الْمُنْحَرِفَيْنِ عَنْ طَرِيقِهَا، وَهُمَا طَرِيقُ أَهْلِ الْغَضَبِ، الَّذِينَ عَدَلُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ قَصْدًا وَعِنَادًا، وَطَرِيقُ أَهْلِ الضَّلَالِ الَّذِينَ عَدَلُوا عَنْهَا جَهْلًا وَضَلَالًا، ثُمَّ يَشْهَدُ جَمْعَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي عَلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَمَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا الْجَمْعُ، فَقَدَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ص446.