الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

مختارات من الشرح الممتع ، كتاب البيع




- لو قلنا: إن القرض بيع، ما صح القرض في الأموال الربوية .

- جميع العقود تنعقد بما دل عليه عرفاً، وهذا القول هو الراجح، وهو المتعين، وهو اختيار شيخ الإسلام.

- الإيجاب هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه، والقبول هو اللفظ الصادر من المشتري، أو من يقوم مقامه.

- فالبيع له شروط سبعة، فإذا قال قائل: ما الدليل على هذا الحصر؟
فالجواب: التتبع، أي أن العلماء تتبعوا فوجدوا أنه لا بد من شروط يصح بها البيع وهي سبعة، وسنبين إن شاء الله ـ تعالى ـ أن هذه السبعة تدور على ثلاثة أمور: الظلم، والغرر، والربا، لكن التفصيل حسن.

- فالتبرع أضيق من التصرف، فمن جاز تبرعه جاز تصرفه، وليس كل من جاز تصرفه جاز تبرعه.
وجائز التصرف من جمع أربعة أوصاف: أن يكون حرّاً، بالغاً، عاقلاً، رشيداً.

- لكن إذا وجدنا هرًّا مربى ينتفع به فالقول بجواز بيعه ظاهر؛ لأن فيه نفعاً.

- وهذا القول هو الصحيح أن الضمير في قوله: «هو حرام» يعود على البيع حتى مع هذه الانتفاعات التي عدها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ؛ وذلك لأن المقام عن الحديث في البيع.
وقيل: «هو حرام» ، يعني الانتفاع بها في هذه الوجوه، فلا يجوز أن تطلى بها السفن، ولا أن تدهن بها الجلود، ولا أن يستصبح بها الناس، ولكن هذا القول ضعيف.
والصحيح أنه يجوز أن تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس.

- مسألة: ما حكم بيع الثعلب المحنط؟
لا يجوز؛ لأنه ميتة وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الخمر والميتة ، وعلى هذا فالذي يوجد الآن في الأسواق يحرم شراؤه وبيعه.
فلو كان المحنط أرنباً فإن حُنِّطَ بدون تذكية بأن ضرب بإبرة أماتته وبقي هكذا فهو حرام لأنه ميتة، وإن ذُكِيَ ذكاة شرعية ولكنه لم يسلخ جلده وبقي، فينظر هل به فائدة أم لا؟ فإن كان فيه فائدة جاز شراؤه وبيعه وإلا فلا.

- (أَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ بِلاَ إِذْنِهِ لَمْ يَصِح وَإِن اشْتَرَى لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِلاَ إِذْنِهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ فِي العَقْدِ صَحَّ لَهُ بِالإِجَازَة، وَلَزِمَ المُشْتَرِيَ بِعَدَمِهَا مُلْكاً )وهذه الصورة هي الصورة الوحيدة التي يصح فيها التصرف الفضولي على المذهب.

- تصرف الفضولي إذا أجازه من تُصُرِّفَ له فهو صحيح .

- (وَلاَ يُبَاعُ غَيْرُ المساكِنِ مِمَّا فُتِحَ عَنْوَةً كَأرْضِ الشّامِ وَمِصْرَ وَالعِرَاقِ بَلْ تُؤَجَّرُ) يعتبر هذا القول ضعيفاً جدّاً، فالصواب جواز بيع المساكن والأرض.
ثم هذا الوقف ليس وقفاً خاصّاً، حتى نقول: إن الأوقاف الخاصة لا تباع إلا أن تتعطل منافعها، فهذا وقف عام على المسلمين عموماً
واختار شيخ الإسلام جواز البيع دون الإجارة لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، وقيل: يجوز بيعها وإجارتها وهذا مذهب الشافعي، وحجتهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قيل له عام الفتح: أتنزل غداً في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع؟! وعقيل هو الذي ورث أبا طالب، وظاهر هذا الحديث أن بيوت مكة تملك، وإذا ملكت جاز بيعها، وجازت إجارتها، وما ذهب إليه الشافعي وغيره هو الذي نصره الموفق في المغني، وأيده بأدلة كثيرة وقال: إن الصحيح جواز البيع والإجارة في بيوت مكة، والعمل على هذا القول، وأما القول بأنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها فهو قول ضعيف، وأما ما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو وإن كان فيه شيء من القوة، فإنه يمكن أن يجاب عنه بأن الآية في أمكنة المشاعر، فهذه لا شك أنها لا تملك.
فصارت البلاد ثلاثة أقسام:
الأول: ما يجوز بيعه وإجارته.
الثاني: ما تجوز إجارته دون بيعه.
الثالث: ما لا يجوز بيعه ولا إجارته.
فالذي فتح عنوة تجوز إجارته دون بيعه، إلا المساكن، ومكة لا يجوز بيعها ولا إجارتها، وبقية الأماكن يجوز بيعها وإجارتها كأرض المدينة وبيت المقدس وبقية الأراضي.

- قوله: «ولا يصح بيع نقع البئرولا ما نبت في أرضه » ؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار»
القول الثاني : أنه إن استنبته فهو ملكه ويجوز بيعه ، اختاره ابن تيمية ، وهذا أشبه بالصواب .
القول الثالث : أن له بيعه ، وأن الحديث في غير الأرض المملوكة .

- (مقدورا على تسليمه ) سواء الثمن أو المثمن .

- ( وطير في هواء ) إن ألف الرجوع صح البيع، ثم إن رجع، وإلا فللمشتري الفسخ، وهذا القول أصح.

- إذاً الرؤية وقتها عند العقد، أو قبله بزمن لا يتغير فيه المبيع.

- «أو وصف له بما لا يكفي سلماً لم يصح» ومذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أنه يصح البيع ويكون للمشتري الخيار إذا رآه وهذا هو الصحيح، وهو شبيه ببيع الفضولي؛ لأنه إذا كان له الخيار إذا رآه فليس عليه نقص.

- يجوز بيع المسك في فأرته .

- الراجح في هذه المسألة أن بيع الصوف على الظهر جائز، لكن بشرط أن يجز في الحال وألاَّ يلحق الحيوان أذى، أما إذا لحق الحيوان أذى مُنِعَ لا لأنه مجهول، ولكن لأذى الحيوان.
القول الثاني: أنه يصح بيعه؛ لأنه وإن كان المقصود منه مستتراً فإنه يكون معلوماً عند ذوي الخبرة فيعرفونه، فيمكن أن تأتي للفلاح وتقول: بعني هذه القطعة من الأرض التي فيها البصل أو الثوم أو الفجل بكذا وكذا، وذلك بعد تكامل النماء، فيصح بيعه، وهذا القول أصح، وهو الذي عليه العمل من زمن قديم، ولا يرون في هذا جهالة، ثم إذا قدر أن هناك جهالة فهي جهالة يسيرة لا تكون غرراً، واختار هذا القول شيخ الإسلام وابن القيم ـ رحمهما الله ـ.

- يصح تعليق العقد بالشرط .

- استثناء المجهول من المبيع المعلوم يصيره مجهولا .

- الألية تكون في الضأن .

- الصحيح أنه يجوز استثناء الحمل .

- لو استثنى شيئا معينا من المبيع ، مثل رطل من شاة فالصحيح أنه إذا كان المستثنى قليلا يجوز ، كذلك الكبد يصح استثناؤها.

- قوله: «أو بألف درهم ذهباً وفضة» هذه المسألة لها صورتان:

الأولى: أن يقول: بعتك بألف ذهباً وفضة.

الثانية: أن يقول: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة.

والمذهب لا يصح في الصورتين، وقيل: يصح في الصورتين ويحمل على المناصفة فتكون القيمة خمسمائة درهم وخمسمائة دينار، لكن لو قال: بألف درهم ذهباً وفضة لا ندري كم سيعطي ربما يعطي أكثرها ذهباً والباقي فضة أو بالعكس فلا ندري.
لكن لو قال قائل: إذا كانت الدراهم والدنانير مقررة، كل اثني عشر درهماً يعادل ديناراً، فإذا قال: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة صار معلوماً، سواء من الدنانير أو الدراهم صح.
لكن قد يكون له غرض في أن يكون أكثر الثمن دنانير أو أكثر الثمن دراهم، فيكون له غرض صحيح، وعلى هذا فقول المؤلف: إنه لا يصح قول صحيح، حتى لو فرض أن قيمة الدراهم من قيمة الدنانير لا تتغير، فإنه قد يكون له غرض في تعيينها.
والخلاصة: أنه لو قال: بعتك بألف ذهباً وفضة، فالبيع صحيح ويحمل على المناصفة، وإذا قال بألف درهم ذهباً وفضة لا يصح؛ لأنه ربما يجعل الأكثر ذهباً والأقل فضة أو بالعكس، وكذلك لو قال: بمائة دينار ذهباً وفضة لا يصح للجهالة.

- والأقرب: أنه لا يصح بما ينقطع به السعر؛ وذلك لأن ما ينقطع به السعر مجهول.

- بعتك بما باع به زيد : يصح إذا كان زيد مشهورا ناصبا نفسه لبيع البضائع.


- وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، أنه إذا باعه من القطيع كل شاة بدرهم، أو من الثوب كل ذراع بدرهم، أو من الصبرة كل قفيز بدرهم، فإن البيع صحيح كما لو باعه الكل.

- والخلاصة: أن مسائل تفريق الصفقة ثلاث:

الأولى: إذا باع معلوماً ومجهولاً لا يتعذر علمه.

الثانية: إذا باع مشاعاً بينه وبين غيره.

الثالثة: إذا باع شيئين، أحدهما يصح البيع فيه، والآخر لا يصح.

والمذهب فيها كلها أن البيع يصح فيما يصح ويبطل فيما يبطل، وللمشتري الخيار.

والقول الثاني في المسألة: أن البيع لا يصح في الجميع؛ لأن الصفقة واحدة ولا يمكن أن تتفرق ولكن الصحيح المذهب.

- البيع بعد نداء الجمعة الثاني حرام وباطل أيضاً، وعليه فلا يترتب عليه آثار البيع، فلا يجوز للمشتري التصرف في المبيع؛ لأنه لم يملكه ولا للبائع أن يتصرف في الثمن المعين؛ لأنه لم يملكه .

- بعد نداء الجمعة الثاني فالصواب أن جميع العقود لا تصح، وأنها حرام، لا يستثنى من ذلك النكاح، ولا القرض، ولا الرهن، ولا غيرها.

- قوله: «وإن جمع بين بيع وكتابة أو بيع وصرف صح في غير الكتابة» هذا الجمع بين العقدين، فإذا جمع بين عقدين فإن كان بشرط فالعقد غير صحيح، وإن كان بغير شرط فالعقد صحيح.وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع» (1)، هذا هو المذهب.والصحيح أنه جائز إذا لم يتضمن محذوراً شرعيّاً، والحاجة داعية لذلك وأما قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «ولا شرطان في بيع» فالعبارة مطلقة فتحمل على المقيد، وهما الشرطان اللذان يلزم منهما الوقوع في محذور شرعي.
وقوله: «بين بيع وكتابة» أي: قال لعبده: بعتك هذه السيارة وكاتبتك بعشرة آلاف، فالثمن واحد والصفقة واحدة، فيقول المؤلف: لا يصح البيع في هذه الحال؛ لأنه باع ملكه على ملكه، والأقرب أنه يصح .

- البيع على بيع أخيه لا يجوز ، والكافر ليس بأخ فيجوز البيع على بيعه، اختاره أهل الظاهر والقول الثاني في المسألة: أنه يحرم البيع على بيع المعصوم، سواء كان مسلماً أو كافراً أو ذميّاً؛ لأن العدوان على الكافر الذمي حرام لا يحل؛ إذ إنه معصوم الدم والعِرض والمال، وتقييد النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك بالأخ بناءً على الأغلب، أو من أجل العطف على أخيك، وعدم التعرض له، وهذا القول أقرب للعدل.

- وهذا القول هو الراجح، أي: أن البيع على بيع أخيه حرام، سواء كان ذلك في زمن الخيارين أو بعد ذلك، ولكن إذا كان بعد مدة طويلة فإن ذلك لا بأس به.

- في البيع على بيع أخيه وشرائه العقد باطل ، وهو المذهب، والقول بهذا القول جيد من باب السياسة ويمنع العدوان على الناس .

- وَمَنْ بَاعَ رَبِويّاً بِنَسِيئَةٍ وَاعْتَاضَ عَن ثَمَنِهِ مَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيْئَةً مثلا باع مائة صاع بر بمائتي ريال مؤجلة إلى سنة، فحين حل الأجل جاء البائع إلى المشتري، وقال له: أعطني الدراهم، قال: ليس عندي إلا تمر، وهل يباع التمر بالبر نسيئة أي بدون تقابض؟
لا ، لحديث (فإذا اختلفت هذه الأصناف ) فهو حرام ، لأنه قد يُتخذ حيلة على بيع البر بالتمر مع عدم التقابض، وقال الموفق صاحب المغني: يجوز بيع ربوي بنسيئة، وأن تعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة؛ لأن الحيلة هنا بعيدة، قال ابن تيمية : يجوز للحاجة ، وهذا عندي أحسن الأقول ، بشرط ألا يربح المستوفي لـ ( لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ) و (ربح ما لم يضمن) .

- «أو اشترى شيئاً نقداً بدون ما باع به نسيئة» هي مسألة العينة .

- (وَإِن اشْتَرَاه بِغَيْرِ جِنْسِهِ، ... جاز ) مثل أن يكون باعه بذهب فيشتريه بفضة ...ولكن الصحيح أنه لا يجوز إذا اشتراه بثمن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن الذي باعه به؛ لأننا نقول: وإن انتفى ربا الفضل فعندنا ربا النسيئة،والخلاصة أن هذه المسألة لها ثلاث صور:

الأولى: بعت عليك هذا البيت بألف درهم لمدة سنة، واشتريته بثمانمائة درهم نقداً، فهذه الصورة لا تجوز، وهذه هي مسألة العينة.

الثانية: بعت عليك هذا البيت بعشرة دنانير إلى سنة ـ تساوي مائة درهم ـ ثم اشتريته نقداً بثمانين درهماً، فعلى كلام المؤلف تجوز، لأن الثمن الذي اشتريته به ليس من جنس الثمن الذي بعت به.

الثالثة: بعته عليك بمائة درهم إلى سنة، ثم اشتريته بمائة كيلو تمر نقداً، فهنا تجوز حتى على كلام المؤلف لأنه قال: «بغير جنسه» .

فعندنا الآن: إذا اشتراه بجنس الثمن فهو حرام قولاً واحداً.

إذا اشتراه بغير جنسه مما لا نسيئة بينه وبين الثمن، فهو جائز قولاً واحداً.

إذا اشتراه بغير جنسه ولكن يجري ربا النسيئة بينه وبين الثمن، فعلى كلام المؤلف يجوز، وعلى القول الراجح لا يجوز؛ لوجود ربا النسيئة.

- التورق فيها روايتان في المذهب :

الجواز

التحريم ، وهو اختيار ابن تيمية ، وقد نص الإمام أحمد على أن مسألة التورق من مسائل العينة . لكن أرى أنها حلال بشروط هي:

أن يتعذر القرض أو السلم .

أن يكون محتاجا لذلك حاجة بينة 

ألا تكون السلعة عند البائع .

الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

مختصر من كتاب المشهور من أسانيد الحديث للشيخ الزرقي ( ما اتفق عليه الشيخان فقط )

قال الشيخ عادل الرزقي : ( وقسمت هذه الأسانيد قسمين :-

 1. قسم مشهور جداً ، تدور عليه أكثر أسانيد الأحاديث ، يكون الأهمَّ لمن أراد حفظ 

هذه الأسانيد ، وجعلت تحتها خطاً ، وفي هذا القسم أربعون إسناداً ، أي ربع العدد ، 

وغالبها رباعيُّ السَّند ...) .


كاتب هذه الأسطر أخذ من أسانيد الكتاب ما اتفق عليه الشيخان فقط ، وهي بضع وثلاثون إسنادا .
 

أنس رضي الله عنه

سعيد بن أبي عَرُوبة عن قَتَادَة عن أنس

شُعبة عن قَتَادَة عن أنس

هشام الدَّسْتَوائي عن قَتَادَة عن أنس


 جابر رضي الله عنه

الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله

ابن جُرَيج عن أبي الزُّبير عن جابر بن عبد الله


ابن عمر رضي الله عنهما


مَعمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر

يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر

حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر  


 
أبو أسامة حمَّاد بن أسامة عن عُبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر

عبد الله بن نُمَير
عن عُبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر

يحيى بن سعيد القطَّان
عن عُبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر

قُتَيبة بن سعيد
عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر

مالك عن نافع عن ابن عمر

موسى بن عُقبة عن نافع عن ابن عمر



أبو موسى الأشعري رضي الله عنه



بُرَيد بن عبد الله عن جده أبي بُردة عن أبي موسى الأشعري


عبدالله بن مسعود رضي الله عنه



الأعْمَش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود

 

أبو هريرة رضي الله عنه 

 

شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة

 أبو معاوية
عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة

مَعمر عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة

يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة


سفيان بن عيينة عن أبي الزِّناد
عن الأعرج عن أبي هريرة

شُعَيب عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة

مالك عن أبي الزِّناد عن الأعرج عن أبي هريرة

 حمَّاد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة

هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة

عبد الرزاق
عن مَعْمر عن همَّام بن منبِّه عن أبي هريرة

يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة

الأوْزاعي
عن يحيى بن أبي كثيرعن أبي سلمة عن أبي هريرة



عائشة رضي الله عنها


الأعْمش عن إبراهيم النَّخعي عن الأسود
عن عائشة

يونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة

أبو أُسامة حمَّاد بن أُسامة عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة

عبد الله بن نُمَير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة


عَبْدَة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة

 عبد الرَّحمن بن القاسم
عن أبيه
عن عائشة

الجمعة، 27 مايو 2016

الشنقيطي و ابن باز رحمهم الله تعالى

شيخنا ابن باز - رحمه الله تعالى - عاش تسعا وثمانين سنة وشهرا وأربعة عشر يوما ( قارب التسعين ) .
كان يصلي الفرائض بهذا العمر واقفا !
لم يكن مصابا بالضغط والسكر والأمراض المزمنة التي تصيب من هم في سنه !
سبب ذلك - والله أعلم - بعد حفظ الله تعالى ما قاله الشيخ العلامة الأمين الشنقيطي المفسر - رحمه الله تعالى - : ( لا يوجد أحد يهتم بأمور المسلمين مثل الشيخ ابن باز ) .

الخميس، 21 أبريل 2016

مختارات من مدارج السالكين ، المجلد الأول ، (المجموعة الثانية) تحقيق بشير عيون، ط 2 ، النص من المكتبة الشاملة




- وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا أَنَّ الْوَارِدَات وَالْمُنَازَلَاتِ لَهَا أَسْمَاءٌ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهَا، فَتَكُونُ لَوَامِعَ
وَبِوَارِقَ وَلَوَائِحَ عِنْدَ أَوَّلِ ظُهُورِهَا وَبُدُوِّهَا، كَمَا يَلْمَعُ الْبَارِقُ وَيَلُوحُ عَنْ بُعْدٍ، فَإِذَا نَازَلَتْهُ وَبَاشَرَهَا فَهِيَ أَحْوَالٌ، فَإِذَا تَمَكَّنَتْ مِنْهُ وَثَبَتَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ فَهِيَ مَقَامَاتٌ، وَهِيَ لَوَامِعُ وَلَوَائِحُ فِي أَوَّلِهَا، وَأَحْوَالٌ فِي أَوْسَطِهَا، وَمَقَامَاتٌ فِي نِهَايَاتِهَا، فَالَّذِي كَانَ بَارِقًا هُوَ بِعَيْنِهِ الْحَالُ، وَالَّذِي كَانَ حَالًا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَقَامُ، وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَهُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْقَلْبِ، وَظُهُورِهِ لَهُ، وَثَبَاتِهِ فِيهِ.
وَقَدْ يَنْسَلِخُ السَّالِكُ مِنْ مَقَامِهِ كَمَا يَنْسَلِخُ مِنَ الثَّوْبِ، وَيَنْزِلُ إِلَى مَا دُونَهُ، ثُمَّ قَدْ يَعُودُ إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يَعُودُ.
وَمِنَ الْمَقَامَاتِ مَا يَكُونُ جَامِعًا لِمَقَامَيْنِ.
وَمِنْهَا مَا يَكُونُ جَامِعًا لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَقَامَاتِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ اسْمَهُ إِلَّا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ فِيهِ.
فَالتَّوْبَةُ جَامِعَةٌ لِمَقَامِ الْمُحَاسَبَةِ وَمَقَامِ الْخَوْفِ، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا بِدُونِهِمَا.
وَالتَّوَكُّلُ جَامِعٌ لِمَقَامِ التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالرِّضَى، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا.
وَالرَّجَاءُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْخَوْفِ وَالْإِرَادَةِ.
وَالْخَوْفُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الرَّجَاءِ وَالْإِرَادَةِ.
وَالْإِنَابَةُ جَامِعَةٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالْخَشْيَةِ، لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُنِيبًا إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا.
وَالْإِخْبَاتُ لَهُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، لَا يَكْمُلُ أَحَدُهَا بِدُونِ الْآخَرِ إِخْبَاتًا.
وَالزُّهْدُ جَامِعٌ لِمَقَامِ الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، لَا يَكُونُ زَاهِدًا مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيمَا يَرْجُو نَفْعَهُ، وَيَرْهَبْ مِمَّا يَخَافُ ضَرَرَهُ.
وَمَقَامُ الْمَحَبَّةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِرَادَةِ، فَالْمَحَبَّةُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِهَا تَحَقُّقُهَا.
وَمَقَامُ الْخَشْيَةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْمَعْرِفَةِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، فَمَتَى عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ حَقَّهُ اشْتَدَّتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فَالْعُلَمَاءُ بِهِ وَبِأَمْرِهِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» .
وَمَقَامُ الْهَيْبَةِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ.
وَمَقَامُ الشُّكْرِ جَامِعٌ لِجَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْفَعَهَا وَأَعْلَاهَا، وَهُوَ فَوْقَ الرِّضَا وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَيَتَضَمَّنُ التَّوَكُّلَ وَالْإِنَابَةَ وَالْحُبَّ وَالْإِخْبَاتَ وَالْخُشُوعَ وَالرَّجَاءَ فَجَمِيعُ الْمَقَامَاتِ مُنْدَرِجَةٌ فِيهِ، لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ اسْمَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ الْمَقَامَاتِ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ نِصْفَيْنِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ، وَالصَّبْرُ دَاخِلٌ فِي الشُّكْرِ، فَرَجِعَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ شُكْرًا، وَالشَّاكِرُونَ هُمْ أَقَلُّ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] .
وَمَقَامُ الْحَيَاءِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ.
وَمَقَامُ الْأُنْسِ جَامِعٌ لِمَقَامِ الْحُبِّ مَعَ الْقُرْبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُحِبُّ بَعِيدًا مِنْ مَحْبُوبِهِ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُحِبَّهُ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، حَتَّى يَجْتَمِعَ لَهُ حُبُّهُ مَعَ الْقُرْبِ مِنْهُ.
وَمَقَامُ الصِّدْقِ جَامِعٌ لِلْإِخْلَاصِ وَالْعَزْمِ، فَبِاجْتِمَاعِهِمَا يَصِحُّ لَهُ مَقَامُ الصِّدْقِ.
وَمَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ جَامِعٌ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ الْخَشْيَةِ، فَبِحَسَبِهِمَا يَصِحُّ مَقَامُ الْمُرَاقَبَةِ.
وَمَقَامُ الطُّمَأْنِينَةِ جَامِعٌ لِلْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالتَّفْوِيضِ وَالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ، فَهُوَ مَعْنًى مُلْتَئِمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، إِذَا اجْتَمَعَتْ صَارَ صَاحِبُهَا صَاحِبَ طُمَأْنِينَةٍ، وَمَا نَقَصَ مِنْهَا نَقَصَ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ.
كَذَلِكَ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُلْتَئِمٌ مِنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءُ عَلَى الرَّغْبَةِ أَغْلَبُ، وَالْخَوْفُ عَلَى الرَّهْبَةِ أَغْلَبُ.
وَكُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ فَالسَّالِكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ نَوْعَانِ: أَبْرَارٌ، وَمُقَرَّبُونَ، فَالْأَبْرَارُ فِي أَذْيَالِهِ، وَالْمُقَرَّبُونَ فِي ذُرْوَةِ سَنَامِهِ، وَهَكَذَا مَرَاتِبُ الْإِيمَانِ جَمِيعُهَا، وَكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ لَا يُحْصِي تَفَاوُتَهُمْ، وَتَفَاضُلَ دَرَجَاتِهِمْ إِلَّا اللَّهُ.
وَتَقْسِيمُهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ عَامٌّ، وَخَاصٌّ، وَخَاصٌّ خَاصٌّ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ جَعْلِ الْفَنَاءِ غَايَةَ الطَّرِيقِ، وَعِلْمِ الْقَوْمِ الَّذِي شَمَّرُوا إِلَيْهِ، وَسَنَذْكُرُ مَا فِي ذَلِكَ، وَأَقْسَامُ الْفَنَاءِ مَحْمُودِهِ وَمَذْمُومِهِ، فَاضِلِهِ وَمَفْضُولِهِ، فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَدَارَهُمْ عَلَيْهِ.
عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ كُلُّ مُرَتِّبٍ لِلْمَنَازِلِ لَا يَخْلُو عَنْ تَحَكُّمٍ، وَدَعْوَى مِنْ غَيْرِ مُطَابَقَةٍ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا الْتَزَمَ عَقْدَ الْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ فِيهِ كُلِّهِ، فَقَدِ الْتَزَمَ لَوَازِمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَمَقَامَاتِهِ وَأَحْوَالَهُ، وَلَهُ فِي كُلِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِهِ وَوَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِهِ أَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ، لَا يَكُونُ مُوَفِّيًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ وَالْوَاجِبِ إِلَّا بِهَا، وَكُلَّمَا وَفَّى وَاجِبًا أَشْرَفَ عَلَى وَاجِبٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَكُلَّمَا قَطَعَ مَنْزِلَةً اسْتَقْبَلَ أُخْرَى.
وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ فِي أَوَّلِ بِدَايَةِ سَيْرِهِ، فَيَنْفَتِحُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْأُنْسِ وَالطُّمَأْنِينَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ لِسَالِكٍ فِي نِهَايَتِهِ، وَيَحْتَاجُ هَذَا السَّالِكُ فِي نِهَايَتِهِ إِلَى أُمُورٍ مِنَ الْبَصِيرَةِ، وَالتَّوْبَةِ، وَالْمُحَاسَبَةِ أَعْظَمَ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْبِدَايَةِ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبٌ كُلِّيٌّ لَازِمٌ لِلسُّلُوكِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي جَعَلُوهَا مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ هِيَ غَايَةُ الْعَارِفِينَ، وَنِهَايَةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَتَهُمْ إِلَى الْمُحَاسَبَةِ فِي نِهَايَتِهِمْ، فَوْقَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِمْ.
فَالْأَوْلَى الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ كَلَامًا مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَقَامٍ مَقَامٌ، بِبَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَمُوجِبِهِ، وَآفَتِهِ الْمَانِعَةِ مِنْ حُصُولِهِ، وَالْقَاطِعِ عَنْهُ، وَذِكْرِ عَامِّهِ وَخَاصِّهِ.
فَكَلَامُ أَئِمَّةِ الطَّرِيقِ هُوَ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهُ كَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
التُّسْتَرِيِّ، وَأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، والْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ وَأَرْفَعِ مِنْ هَؤُلَاءِ طَبَقَةً، مِثْلَ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، وَعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ حَكِيمُ الْأُمَّةِ وأَضْرَابِهِمَا، فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَعَلَى الْأَحْوَالِ كَلَامًا مُفَصَّلًا جَامِعًا مُبَيِّنًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ، وَلَا حَصْرٍ لِلْمَقَامَاتِ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَجَلَّ مَنْ هَذَا، وَهَمُّهُمْ أَعْلَى وَأَشْرَفُ، إِنَّمَا هُمْ حَائِمُونَ عَلَى اقْتِبَاسِ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَطَهَارَةِ الْقُلُوبِ، وَزَكَاةِ النُّفُوسِ، وَتَصْحِيحِ الْمُعَامَلَةِ، وَلِهَذَا كَلَامُهُمْ قَلِيلٌ فِيهِ الْبَرَكَةُ، وَكَلَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ كَثِيرٌ طَوِيلٌ قَلِيلُ الْبِرْكَةِ.
وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الزَّمَانِ بِاصْطِلَاحِهِمْ، إِذْ لَا قُوَّةَ لَهُمْ لِلتَّشْمِيرِ إِلَى تَلَقِّي
الْقَوْمَ كَانُوا أَسْلَمَ، وَإِنَّ طَرِيقَنَا أَعْلَمُ، وَكَمَا يَقُولُ مَنْ لَمْ يُقَدِّرْ قَدْرَهُمْ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِاسْتِنْبَاطِهِ، وَضَبْطِ قَوَاعِدِهِ وَأَحْكَامِهِ، اِشْتِغَالًا مِنْهُمْ بِغَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ تَفَرَّغُوا لِذَلِكَ، فَهُمْ أَفْقَهُ.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ السَّلَفِ، وَعَنْ عُمْقِ عُلُومِهِمْ، وَقِلَّةِ تَكَلُّفِهِمْ، وَكَمَالِ بَصَائِرِهِمْ، وَتَاللَّهِ مَا امْتَازَ عَنْهُمُ الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَّا بِالتَّكَلُّفِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَطْرَافِ الَّتِي كَانَتْ هِمَّةُ الْقَوْمِ مُرَاعَاةَ أُصُولِهَا، وَضَبْطَ قَوَاعِدِهَا، وَشَدَّ مَعَاقِدِهَا، وَهِمَمُهُمْ مُشَمِّرَةٌ إِلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَالْمُتَأَخِّرُونَ فِي شَأْنٍ وَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ، وَ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .
فَالْأَوْلَى بِنَا: أَنْ نَذْكُرَ مَنَازِلَ الْعُبُودِيَّةِ الْوَارِدَةَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنُشِيرَ إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُودِهَا وَمَرَاتِبِهَا، إِذْ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا بِالْجَهْلِ وَالنِّفَاقِ، فَقَالَ تَعَالَى {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَنْ لَا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 96] فَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِهَا دِرَايَةً، وَالْقِيَامِ بِهَا رِعَايَةً يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ، وَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ".
وَنَذْكُرُ لَهَا تَرْتِيبًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ، بَلْ مُسْتَحْسَنٌ، بِحَسَبِ تَرْتِيبِ السَّيْرِ الْحِسِّيِّ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى تَنْزِيلِ الْمَعْقُولِ مَنْزِلَةَ الْمَشْهُودِ بِالْحِسِّ، فَيَكُونَ التَّصْدِيقُ أَتَمَّ، وَمَعْرِفَتُهُ أَكْمَلَ، وَضَبْطُهُ أَسْهَلَ.
فَهَذِهِ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ، وَلِهَذَا أَكْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ، وَنَفَى عَقْلَهَا عَنْ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ، فَقَالَ تَعَالَى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .143-148
 
 
 
- وَأَمَّا تَمْيِيزُ النِّعْمَةِ مِنَ الْفِتْنَةِ: فَلْيُفَرِّقْ بَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الْإِحْسَانُ وَاللُّطْفُ، وَيُعَانُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يُرَى بِهَا الِاسْتِدْرَاجُ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالنِّعَمِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِ، مَغْرُورٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ حَوَائِجَهُ وَسَتْرِهِ عَلَيْهِ! وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَلَامَةُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
فَإِذَا كَمَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِيهِ عَرَفَ حِينَئِذٍ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِجَمْعِهِ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ حَقِيقَةٌ، وَمَا فَرَّقَهُ عَنْهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ الْبَلَاءُ فِي صُورَةِ النِّعْمَةِ، وَالْمِحْنَةُ فِي صُورَةِ الْمِنْحَةِ، فَلْيَحْذَرْ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْرَجٌ، وَيُمَيِّزْ بِذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الْمِنَّةِ وَالْحُجَّةِ، فَكَمْ تَلْتَبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ بِالْأُخْرَى! .
فَإِنَّ الْعَبْدَ بَيْنَ مِنَّةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَحُجَّةٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا، فَالْحُكْمُ الدِّينِيُّ مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وَقَالَ {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17] وَقَالَ {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] .
وَالْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ أَيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمِنَّتِهِ وَحُجَّتِهِ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ كَوْنًا حُكْمًا مَصْحُوبًا بِاتِّصَالِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ بِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ الدِّينِيُّ فَهُوَ حُجَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ الدِّينِيُّ إِذَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُهُ الْكَوْنِيُّ، فَتَوْفِيقُهُ لِلْقِيَامِ بِهِ مِنَّةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ حُكْمِهِ الْكَوْنِيِّ صَارَ حُجَّةً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَالْمِنَّةُ بِاقْتِرَانِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَالْحُجَّةُ فِي تَجَرُّدِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَكُلُّ عِلْمٍ صَحِبَهُ عَمَلٌ يُرْضِي اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ قُوَّةٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ صَحِبَهَا تَنْفِيذٌ لِمَرْضَاتِهِ وَأَوَامِرِهِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ حَالٍ صَحِبَهُ تَأْثِيرٌ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنَّةٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ مَالٍ اقْتَرَنَ بِهِ إِنْفَاقٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، لَا لِطَلَبِ الْجَزَاءِ وَلَا الشَّكُورِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ فَرَاغٍ اقْتَرَنَ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا يُرِيدُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فَهُوَ مِنَّةٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ قَبُولٍ فِي النَّاسِ، وَتَعْظِيمٍ وَمَحَبَّةٍ لَهُ، اتَّصَلَ بِهِ خُضُوعٌ لِلرَّبِّ، وَذُلٌّ وَانْكِسَارٌ، وَمَعْرِفَةٌ بِعَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ لِلْخَلْقِ فَهُوَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ بَصِيرَةٍ وَمَوْعِظَةٍ، وَتَذْكِيرٍ وَتَعْرِيفٍ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبْدِ، اتَّصَلَ بِهِ عِبْرَةٌ وَمَزِيدٌ فِي الْعَقْلِ، وَمَعْرِفَةٌ فِي الْإِيمَانِ فَهِيَ مِنَّةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ.
وَكُلُّ حَالٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مَقَامٍ اتَّصَلَ بِهِ السَّيْرُ إِلَى اللَّهِ، وَإِيثَارُ مُرَادِهِ عَلَى مُرَادِ الْعَبْدِ، فَهُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ صَحِبَهُ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَالرِّضَى بِهِ، وَإِيثَارُ مُقْتَضَاهُ، مِنْ لَذَّةِ النَّفْسِ بِهِ وَطُمَأْنِينَتِهَا إِلَيْهَا، وَرُكُونِهَا إِلَيْهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ.
فَلْيَتَأَمَّلِ الْعَبْدُ هَذَا الْمَوْضِعَ الْعَظِيمَ الْخَطَرِ، وَيُمَيِّزْ بَيْنَ مَوَاقِعِ الْمِنَنِ وَالْمِحَنِ، وَالْحُجَجِ وَالنِّعَمِ، فَمَا أَكْثَرَ مَا يَلْتَبِسُ ذَلِكَ عَلَى خَوَاصِّ النَّاسِ وَأَرْبَابِ السُّلُوكِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.177-178
 
 
- فَصْلٌ
وَأَمَّا الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرُ تَكْذِيبٍ، وَكُفْرُ اسْتِكْبَارٍ وَإِبَاءٍ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَكُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَكُفْرُ شَكٍّ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ.
فَأَمَّا كُفْرُ التَّكْذِيبِ فَهُوَ اعْتِقَادُ كَذِبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ قَلِيلٌ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيَّدَ رُسُلَهُ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ مَا أَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ بِهِ الْمَعْذِرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .
وَإِنَّ سُمِّيَ هَذَا كُفْرَ تَكْذِيبٍ أَيْضًا فَصَحِيحٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِاللِّسَانِ.
وَأَمَّا كُفْرُ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَنَحْوُ كُفْرِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا قَابَلَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْ هَذَا كُفْرُ مَنْ عَرَفَ صِدْقَ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى كُفْرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]
وَقَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] وَهُوَ كُفْرُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] وَقَالَ {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وَهُوَ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِي صِدْقِهِ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَتَعْظِيمُ آبَائِهِ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.
وَأَمَّا كُفْرُ الْإِعْرَاضِ فَأَنْ يُعْرِضَ بِسَمْعِهِ وَقَلْبِهِ عَنِ الرَّسُولِ، لَا يُصَدِّقُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، وَلَا يُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يُصْغِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ كَلِمَةً، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَنْتَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.
وَأَمَّا كُفْرُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ، بَلْ يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَمِرُّ شَكُّهُ إِلَّا إِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً، فَلَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا، وَنَظَرِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، لِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّدْقِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَجْمُوعِهَا، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصِّدْقِ كَدَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ.
وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْسَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .336-337
 
 
- الْكَذِبُ يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِمَخْبَرِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: كَذِبٌ عَمْدٌ، وَكَذِبٌ خَطَأٌ، فَكَذِبُ الْعَمْدِ مَعْرُوفٌ، وَكَذِبُ الْخَطَأِ كَكَذِبِ أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ فِي فَتْوَاهُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَتِمَّ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَذَبَ مَنْ قَالَهَا» لِمَنْ قَالَ: حَبِطَ عَمَلُ عَامِرٍ، حَيْثُ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، حَيْثُ قَالَ: الْوِتْرُ وَاجِبٌ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ كَذِبِ الْخَطَأِ، وَمَعْنَاهُ أَخْطَأَ قَائِلُ ذَلِكَ.
 
وَالثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْكَذِبِ: الْخَبَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْإِخْبَارُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، كَخَبَرِ الْقَاذِفِ الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ الزِّنَا، وَالْإِخْبَارِ بِهِ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِمَخْبَرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فَحُكْمُ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُعَاقَبَ عُقُوبَةَ الْمُفْتَرِي الْكَاذِبِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ حَتَّى يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ وَجَعَلَهُ اللَّهُ كَاذِبًا، فَأَيُّ تَوْبَةٍ لَهُ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مَحْضُ الْإِصْرَارِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِمُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ؟360-361

الجمعة، 8 أبريل 2016

مختارات من مدارج السالكين ، المجلد الأول ، (المجموعة الأولى ) تحقيق بشير عيون، ط 2 ، النص من المكتبة الشاملة



- كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: " عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ "، وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ فِي تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إِلَى الرَّفِيقِ السَّابِقِ، وَاحْرِصْ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ فِي طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ مَتَى الْتَفَتَّ إِلَيْهِمْ أَخَذُوكَ وَعَاقُوكَ.

وَقَدْ ضَرَبْتُ لِذَلِكَ مَثَلَيْنِ، فَلْيَكُونَا مِنْكَ عَلَى بَالٍ:

الْمَثَلُ الْأَوَّلُ: رَجُلٌ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلَاةِ، لَا يُرِيدُ غَيْرَهَا، فَعَرَضَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ كَلَامًا يُؤْذِيهِ، فَوَقَفَ وَرَدَّ عَلَيْهِ، وَتَمَاسَكَا، فَرُبَّمَا كَانَ شَيْطَانُ الْإِنْسِ أَقْوَى مِنْهُ، فَقَهَرَهُ، وَمَنَعَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ، حَتَّى فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ، وَرُبَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَقْوَى مِنْ شَيْطَانِ الْإِنْسِ، وَلَكِنِ اشْتَغَلَ بِمُهَاوَشَتِهِ عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَكَمَالِ إِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ أَطْمَعَهُ فِي نَفْسِهِ، وَرُبَّمَا فَتَرَتْ عَزِيمَتُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ وَعِلْمٌ زَادَ فِي السَّعْيِ وَالْجَمْزِ بِقَدْرِ الْتِفَاتِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهُ وَاشْتَغَلَ لِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ أَوِ الْوَقْتِ لَمْ يَبْلُغْ عَدُوُّهُ مِنْهُ مَا شَاءَ.

الْمَثَلُ الثَّانِي: الظَّبْيُ أَشَدُّ سَعْيًا مِنَ الْكَلْبِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا أَحَسَّ بِهِ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فَيَضْعُفُ سَعْيُهُ، فَيُدْرِكُهُ الْكَلْبُ فَيَأْخُذُهُ.38
-  فَالْإِلْحَادُ إِمَّا بِجَحْدِهَا وَإِنْكَارِهَا، وَإِمَّا بِجَحْدِ مَعَانِيهَا وَتَعْطِيلِهَا، وَإِمَّا بِتَحْرِيفِهَا عَنِ الصَّوَابِ، وَإِخْرَاجِهَا عَنِ الْحَقِّ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَإِمَّا بِجَعْلِهَا أَسْمَاءً لِهَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَصْنُوعَاتِ، كَإِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ .46
- فَإِنَّ اسْمَ السَّمِيعِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ وَسَمْعِهِ بِالْمُطَابَقَةِ، وَعَلَى الذَّاتِ وَحْدَهَا، وَعَلَى السَّمْعِ وَحْدَهُ بِالتَّضَمُّنِ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْمِ الْحَيِّ وَصِفَةِ الْحَيَاةِ بِالِالْتِزَامِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَكِنْ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ هَاهُنَا يَقَعُ اخْتِلَافُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَحْكَامِ.47 - مراتب الهداية إجمالا عشرة :

1- تكليم الله لعبده يقظة بلا واسطة .

2- مرتبة الوحي المختص بالأنبياء .

3- إرسال الرسول الملكي إلى الرسول البشري .

4- التحديث .

5- الإفهام .

6- البيان العام .

7- البيان الخاص .

8- الإسماع .

9- الإلهام .

10- الرؤيا الصادقة .

الثلاث المراتب الأولى مختصة بالأنبياء عليهم السلام .52-66


- وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: جَزَمَ بِأَنَّهُمْ كَائِنُونَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا، وَعَلَّقَ وُجُودَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بِ " إِنْ " الشَّرْطِيَّةِ، مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ الْأُمَمِ، لِاحْتِيَاجِ الْأُمَمِ قَبْلَنَا إِلَيْهِمْ، وَاسْتِغْنَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْهُمْ بِكَمَالِ نَبِيِّهَا وَرِسَالَتِهِ، فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ الْأُمَّةَ بَعْدَهُ إِلَى مُحَدَّثٍ وَلَا مُلْهَمٍ، وَلَا صَاحِبِ كَشْفٍ وَلَا مَنَامٍ، فَهَذَا التَّعْلِيقُ لِكَمَالِ الْأُمَّةِ وَاسْتِغْنَائِهَا لَا لِنَقْصِهَا.
وَالْمُحَدَّثُ: هُوَ الَّذِي يُحَدِّثُ فِي سِرِّهِ وَقَلْبِهِ بِالشَّيْءِ، فَيَكُونُ كَمَا يُحَدِّثُ بِهِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَالصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مِنَ الْمُحَدَّثِ، لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَمَالِ صَدِّيقِيَّتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ عَنِ التَّحْدِيثِ وَالْإِلْهَامِ وَالْكَشْفِ .55
- قُلْتُ - ابن القيم - : التَّحْدِيثُ أَخَصُّ مِنَ الْإِلْهَامِ، فَإِنَّ الْإِلْهَامَ عَامٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ إِيمَانِهِمْ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ رُشْدَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الْإِيمَانُ، فَأَمَّا التَّحْدِيثُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ «إِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ» يَعْنِي مِنَ الْمُحَدَّثِينَ، فَالتَّحْدِيثُ إِلْهَامٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْوَحْيُ إِلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ إِمَّا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] وَقَوْلِهِ {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111] وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] فَهَذَا كُلُّهُ وَحَيُّ إِلْهَامٍ.60

- وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ " الْفِرَاسَةِ " وَ " الْإِلْهَامِ " يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ، وَخَاصُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ عَامِّ الْآخَرِ، وَعَامُّ كُلِّ وَاحِدٍ قَدْ يَقَعُ كَثِيرًا، وَخَاصُّهُ قَدْ يَقَعُ نَادِرًا، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ الصَّحِيحَ أَنَّ الْفِرَاسَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَتَحْصِيلٍ، وَأَمَّا الْإِلْهَامُ فَمَوْهِبَةٌ مُجَرَّدَةٌ، لَا تُنَالُ بِكَسْبٍ الْبَتَّةَ.60-61


- الْكَرَامَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَاحْتِيَاجِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَيْهَا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ على هذا المعنى .66


 - لما حصل الشفاء الأعلى بالفاتحة كان الشفاء الأدنى بها أولى .70


 - فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حُصُولَ شِفَاءِ هَذَا اللَّدِيغِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ، فَأَغْنَتْهُ عَنِ الدَّوَاءِ، وَرُبَّمَا بَلَغَتْ مِنْ شِفَائِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّوَاءُ ، هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمَحَلِّ غَيْرَ قَابِلٍ، إِمَّا لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ الْحَيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلَ بُخْلٍ وَلُؤْمٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا.
71
 
- فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ تَسْأَلَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا خِيرَتُهُ وَعَاقِبَتُهُ مُغَيَّبَةٌ عَنْكَ، وَإِذَا لَمْ تَجِدْ مِنْ سُؤَالِهِ بُدًّا، فَعَلِّقْهُ عَلَى شَرْطِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِيهِ الْخِيَرَةَ، وَقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ سُؤَالِكَ الِاسْتِخَارَةَ .91

- العاقل خصم نفسه ، والجاهل خصم أقدار ربه . 92

- وَلَا يُعَامِلُ أَحَدَ الْخَلْقِ دُونَ اللَّهِ إِلَّا لِجَهْلِهِ بِاللَّهِ وَجَهْلِهِ بِالْخَلْقِ، وَإِلَّا فَإِذَا عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ النَّاسَ آثَرَ مُعَامَلَةَ اللَّهِ عَلَى مُعَامَلَتِهِمْ. 95

- وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ".
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِهِمْ هَذَا، وَإِنْكَارِهِمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَجْهًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " قُرَّةُ عُيُونِ الْمُحِبِّينَ، وَرَوْضَةُ قُلُوبِ الْعَارِفِينَ " .103، 393


- أعمال القلوب فرضها أفرض من أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها .111


- قَدِ انْقَلَبَتِ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ بِالنِّيَّةِ فَلَيْسَ فِي حَقِّهِمْ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ .118



- وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْلَاصِ أَنَّ لِلْعَبْدِ مَطْلُوبًا وَطَلَبًا، فَالْإِخْلَاصُ تَوْحِيدُ مَطْلُوبِهِ، وَالصِّدْقُ تَوْحِيدُ طَلَبِهِ. فَالْإِخْلَاصُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَطْلُوبُ مُنْقَسِمًا، وَالصِّدْقُ: أَنْ لَا يَكُونَ الطَّلَبُ مُنْقَسِمًا، فَالصِّدْقُ بَذْلُ الْجُهْدِ، وَالْإِخْلَاصُ إِفْرَادُ الْمَطْلُوبِ. 119
 
- وَهَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي الرِّضَا بِقَضَائِهِ الْكَوْنِيِّ، وَأَمَّا الرِّضَا بِهِ رَبًّا وَإلَهًا، وَالرِّضَا بِأَمْرِهِ الدِّينِيِّ فَمُتَّفَقٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، بَلْ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُسْلِمًا إِلَّا بِهَذَا الرِّضَا أَنْ يَرْضَى بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا. 121


- وَالْمَعْصِيَةُ نَوْعَانِ: كَبَائِرُ، وَصَغَائِرُ.
فَالْكَبَائِرُ: كَالرِّيَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَالْكِبْرِ، وَالْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِأَذَى الْمُسْلِمِينَ، وَالشَّمَاتَةِ بِمُصِيبَتِهِمْ، وَمَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِيهِمْ، وَحَسَدِهِمْ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَمَنِّي زَوَالِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَتَوَابِعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ . 122


- الصحيح أن المعاد معلوم بالعقل ، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي . 134


- تمحيص المذنبين يكون بأربعة أشياء :

التوبة - الاستغفار - الحسنات الماحية - المصائب المكفرة .

وفي البرزخ بثلاثة - إن لم يمحص في الدنيا - :

صلاة أهل الإيمان الجنازة عليه واستغفارهم وشفاعتهم فيه .

فتنة القبر .

ما يهدي إليه إخوانه من الأعمال .

وفي الموقف (إن لم يمحص في القبر ) بأربعة أشياء :

أهوال القيامة - شدة الموقف - شفاعة الشفعاء - عفو الله عز وجل .

فإن لم يف ما سبق فلابد من دخول النار ليتطهر ، نعوذ بالله منها .150 -151
 

- وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى وُصُولِ الصَّدَقَةِ وَالدُّعَاءِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَمَا عَدَاهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بِوُصُولِ الْحَجِّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ، وَأَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ مَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ، يَقُولُونَ: يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ جَمِيعِ الْقُرَبِ، بِدَنِيِّهَا وَمَالِيَّهَا، وَالْجَامِعُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ " يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ "، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» .

- ما على العبد أضر من ملك العادات له ، 153 -154


- وَالْقَصْدُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ، وَقَعَ فِي بَاطِلٍ مُقَابِلٍ لِمَا أَعْرَضَ عَنْهُ مِنَ الْحَقِّ وَجَحَدَهُ وَلَا بُدَّ، حَتَّى فِي الْأَعْمَالِ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِوَجْهِ اللَّهِ وَحْدَهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْعَمَلِ لِوُجُوهِ الْخَلْقِ، فَرَغِبَ عَنِ الْعَمَلِ لِمَنْ ضَرُّهُ وَنَفْعُهُ وَمَوْتُهُ وَحَيَاتُهُ وَسَعَادَتُهُ بِيَدِهِ، فَابْتُلِيَ بِالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنْ إِنْفَاقِ مَالِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ابْتُلِيَ بِإِنْفَاقِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ رَاغِمٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ التَّعَبِ لِلَّهِ ابْتُلِيَ بِالتَّعَبِ فِي خِدْمَةِ الْخَلْقِ وَلَا بُدَّ.
وَكَذَلِكَ مَنْ رَغِبَ عَنِ الْهَدْيِ بِالْوَحْيِ، ابْتُلِيَ بِكُنَاسَةِ الْآرَاءِ وَزِبَالَةِ الْأَذْهَانِ، وَوَسَخِ الْأَفْكَارِ. 171


- وَنُورُ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا: هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيِّزُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيُبْصِرُ بِهِ مَرَاتِبَ الْأَعْمَالِ، رَاجِحَهَا وَمَرْجُوحَهَا، وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودَهَا، وَكُلَّمَا كَانَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظُّهُ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ. 177

- ( كذلك زينا لكل أمة عملهم ) إضافة التزيين إليه قضاء وقدرا ، 190

- الخلق تعذرهم بالقدر في حقك لا في حق ربك ... ، حديث أنس (دعوه فلو قضي شيء لكان ) .203

- فَإِذَا أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ التَّدَبُّرَ وَمَعْرِفَةَ الْمُرَادِ، وَالنَّظَرَ إِلَى مَا يَخُصُّكَ مِنْهُ وَالتَّعَبُّدَ بِهِ، وَتَنْزِيلَ دَوَائِهِ عَلَى أَدْوَاءِ قَلْبِكَ، وَالِاسْتِشْفَاءَ بِهِ، لَمْ تَكَدْ تَجُوزُ السُّورَةَ أَوِ الْآيَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا جَمَعْتَ قَلْبَكَ كُلَّهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَعْطَيْتَهُمَا مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُضُورِ وَالْخُشُوعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، لَمْ تَكَدْ أَنْ تُصَلِّيَ غَيْرَهُمَا إِلَّا بِجَهْدٍ . 261

- التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على غيره . 276

- ولا يُرد القول بمجرد كون المعتزلة قالوه .277

- الله سبحانه وتعالى يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له . 307

- الكفر خمسة أنواع : التكذيب ، الاستكبار و الإباء مع التصديق ، الإعراض ، الشك ، النفاق . 336

- ( إن جآءكم فاسق بنبأ ) نزلت في الوليد بن عقبة . 356

- من عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض ؛ كالزانية وبائع الخمر والخمر فتوبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه ، وهو اختيار ابن تيمية وهو أصوب القولين .384

- إذا غصب مالا واتجر به وربح ( فَقِيلَ: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْغَاصِبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْدَعَهُ مَالًا فَاتَّجَرَ بِهِ وَرَبِحَ، فَرِبْحُهُ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ عِنْدَهُمَا وَضَمَانُهُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، فَتُضَمُّ حِصَّةُ الْمَالِكِ مِنَ الرِّبْحِ إِلَى أَصْلِ الْمَالِ وَيُتَصَدَّقُ بِذَلِكَ ) .385


- وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ عَلَى نُفُوسِ ذَوَاتِ السُّمُومِ وَالْحُمَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِعَيْنِهِ فَيُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ، وَالْعَيْنُ وَحْدَهَا لَمْ تَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّمَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ السُّمِّيَّةُ تَكَيَّفَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ مَعَ شِدَّةِ حَسَدٍ وَإِعْجَابٍ، وَقَابَلَتِ الْمَعِينَ عَلَى غِرَّةِ مِنْهُ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ أَعْزَلُ مِنْ سِلَاحِهِ فَلَدَغَتْهُ كَالْحَيَّةِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعٍ مَكْشُوفٍ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ فَتَنْهَشُهُ، فَإِمَّا عَطَبٌ وَإِمَّا أَذًى، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ أَذَى الْعَائِنِ عَلَى الرُّؤْيَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ إِذَا وُصِفَ لَهُ الشَّيْءُ الْغَائِبُ عَنْهُ وَصَلَ إِلَيْهِ أَذَاهُ وَالذَّنْبُ لِجَهْلِ الْمَعِينِ وَغَفْلَتِهِ وَغِرَّتِهِ عَنْ حَمْلِ سِلَاحِهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَالْعَائِنُ لَا يُؤَثِّرُ فِي شَاكِي السِّلَاحِ كَالْحَيَّةِ إِذَا قَابَلَتْ دِرْعًا سَابِغًا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ لَيْسَ فِيهِ مَوْضِعٌ مَكْشُوفٌ، فَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَرَادَ حِفْظَ نَفْسِهِ وَحِمَايَتَهَا أَنْ لَا يَزَالَ مُتَدَرِّعًا مُتَحَصِّنًا لَابِسًا أَدَاةَ الْحَرْبِ مُوَاظِبًا عَلَى أَوْرَادِ التَّعَوُّذَاتِ وَالتَّحْصِينَاتِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ وَالَّتِي فِي السُّنَّةِ.
وَإِذَا عُرِفَ الرَّجُلُ بِالْأَذَى بِالْعَيْنِ سَاغَ بَلْ وَجَبَ حَبْسُهُ وَإِفْرَادُهُ عَنِ النَّاسِ وَيُطْعَمُ وَيُسْقَى حَتَّى يَمُوتَ، ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ نَصِيحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ. 395

 
- شعيب عليه السلام خطيب الأنبياء ، 405
- ... فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له - بعد الإيمان - من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به . 459

- لم يأت الحزن في الكتاب إلا منهيا عنه أو منفيا  ( ولا تهنوا ولا تحزنوا ) (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) 491 -492

- وَأَمَّا حَدِيثُ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ.
وَكَيْفَ يَكُونُ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ، وَقَدْ صَانَهُ اللَّهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَى الْكُفَّارِ، وَغَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ الْحُزْنُ؟ .
بَلْ كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، كَمَا فِي صِفَتِهِ " الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ " صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ " «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ» " فَلَا يُعْرَفُ إِسْنَادُهُ، وَلَا مَنْ رَوَاهُ، وَلَا تُعْلَمُ صِحَّتُهُ.
وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْحُزْنُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمَصَائِبِ، الَّتِي يَبْتَلِي اللَّهُ بِهَا عَبْدَهُ، فَإِذَا ابْتَلَى بِهِ الْعَبْدَ فَصَبَرَ عَلَيْهِ، أَحَبَّ صَبْرَهُ عَلَى بَلَائِهِ. 493

- المضاعف والمعتل أخوان ، كتقضى البازي وتقضض .498

 


الخميس، 24 مارس 2016

من منزلة الصدق ، مدارج السالكين




- وَقَالَ الْجُنَيْدُ: الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً. وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ.
لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا. فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي. بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ. وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ. كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا. وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ. وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ. لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. وَمَكَانٍ وَسَبَبٍ: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ. وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ. وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا. فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ. وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ. فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ. ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ. ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ. أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إِنْ أَمْكَنَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ.
فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ. لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ. وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ. وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ. وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ. وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ - وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ.
وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ. وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ: أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ. وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ. وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ.
فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ.
وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي. لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ. فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ. وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ. فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ. فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ.

-  وقيل : ثلاثة لا تخطيء الصادق : الحلاوة ، والهيبة ، والملاحة .

- وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ: الصَّادِقُ هُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كُلُّ قَدْرٍ لَهُ فِي قُلُوبِ  الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ قَلْبِهِ. وَلَا يُحِبُّ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ حُسْنِ عَمَلِهِ. وَلَا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُحِبُّ الزِّيَادَةَ عِنْدَهُمْ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ عَلَامَاتِ الصِّدِّيقِينَ.
وَفِي هَذَا نَظَرٌ. لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ مِنْ جِنْسِ كَرَاهَتِهِ لِلضَّرْبِ وَالْمَرَضِ وَسَائِرِ الْآلَامِ. وَهَذَا أَمْرٌ جَبَلِيٌّ طَبِيعِيٌّ. وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنِ الصِّدْقِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ قُدْوَةً مُتَّبَعًا. فَإِنَّ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ. لِأَنَّ فِيهَا مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ تَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَاتِّبَاعِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَنْفِيذِهِ. وَمَفْسَدَةَ اقْتِدَاءِ الْجُهَّالِ بِهِ فِيهَا. فَكَرَاهِيَتُهُ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَسَاوِئِ عَمَلِهِ: لَا تُنَافِي صِدْقَهُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِهِ.
نَعَمِ الْمُنَافِي لِلصِّدْقِ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُرَادٌ سِوَى عِمَارَةِ حَالِهِ عِنْدَهُمْ، وَسُكْنَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمًا لَهُ. فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَشْرًا لِدِينِهِ، وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَعْوَةً إِلَى اللَّهِ: فَهَذَا الصَّادِقُ حَقًّا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ سَرَائِرَ الْقُلُوبِ وَمَقَاصِدَهَا.
وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الْمُحَاسِبِيِّ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَى السَّيِّئِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فُضُولًا، وَدُخُولًا فِيمَا لَا يَعْنِي. فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حَيْثُ قَالَ: لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا - أَوْ عِقَالًا - كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَعُدُّونَهُ وَيَرَوْنَهُ مِنْ سَيِّئِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْعَوَامِّ وَالْجُهَّالِ.

من منزلة التوكل ، مدارج السالكين



- التَّوَكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ. وَالنِّصْفُ الثَّانِي الْإِنَابَةُ، فَإِنَّ الدِّينَ اسْتِعَانَةٌ وَعِبَادَةٌ. فَالتَّوَكُّلُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ، وَالْإِنَابَةُ هِيَ الْعِبَادَةُ.
وَمَنْزِلَتُهُ أَوْسَعُ الْمَنَازِلِ وَأَجْمَعُهَا. وَلَا تَزَالُ مَعْمُورَةً بِالنَّازِلِينَ، لِسَعَةِ مُتَعَلِّقِ التَّوَكُّلِ، وَكَثْرَةِ حَوَائِجَ الْعَالَمِينَ، وَعُمُومِ التَّوَكُّلِ، وَوُقُوعِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَالْبَهَائِمِ. فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - الْمُكَلَّفُونَ وَغَيْرُهُمْ - فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَإِنْ تَبَايَنَ مُتَعَلِّقُ تَوَكُّلِهِمْ. فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ فِي الْإِيمَانِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَفِي مَحَابِّهِ وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَحِفْظِ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ، فَارِغًا عَنِ النَّاسِ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي مَعْلُومٍ يَنَالُهُ مِنْهُ. مِنْ رِزْقٍ أَوْ عَافِيَةٍ. أَوْ نَصْرٍ عَلَى عَدُوٍّ، أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَدُونَ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ. فَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَا يَنَالُونَهَا غَالِبًا إِلَّا بِاسْتِعَانَتِهِمْ بِاللَّهِ. وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ تَوَكُّلُهُمْ أَقْوَى مِنْ تَوَكُّلِ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الطَّاعَاتِ. وَلِهَذَا يُلْقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَتَالِفِ وَالْمَهَالِكِ، مُعْتَمِدِينَ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ، وَيُظْفِرَهُمْ بِمَطَالِبِهِمْ.

فَأَفْضَلُ التَّوَكُّلِ، التَّوَكُّلُ فِي الْوَاجِبِ - أَعْنِي وَاجِبَ الْحَقِّ، وَوَاجِبَ الْخَلْقِ، وَوَاجِبَ النَّفْسِ - وَأَوْسَعُهُ وَأَنْفَعُهُ التَّوَكُّلُ فِي التَّأْثِيرِ فِي الْخَارِجِ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ. أَوْ فِي دَفْعِ مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ تَوَكُّلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ، وَدَفْعِ فَسَادِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا تَوَكُّلُ وَرَثَتِهِمْ. ثُمَّ النَّاسُ بَعْدُ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى حَسَبِ هِمَمِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ، فَمِنْ مُتَوَكِّلٍ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ الْمُلْكِ، وَمِنْ مُتَوَكِّلٍ فِي حُصُولِ رَغِيفٍ.

وَمَنْ صَدَقَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ شَيْءٍ نَالَهُ. فَإِنْ كَانَ مَحْبُوبًا لَهُ مَرْضِيًّا كَانَتْ لَهُ فِيهِ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ، وَإِنْ كَانَ مَسْخُوطًا مَبْغُوضًا كَانَ مَا حَصَلَ لَهُ بِتَوَكُّلِهِ مَضَرَّةً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا حَصَلَتْ لَهُ مَصْلَحَةُ التَّوَكُّلِ دُونَ مَصْلَحَةِ مَا تَوَكَّلَ فِيهِ. إِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَاتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- وَيَكُونُ أَيْضًا قِيَامُهُ بِالسَّبَبِ عَلَى نِيَّةِ نَفْعِ النَّفْسِ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِذَلِكَ. فَيَحْصُلُ لَهُ نَفْعُ نَفْسِهِ وَنَفْعُ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا تَضَمُّنُ ذَلِكَ لِتَرْكِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالسَّبَبِ تَخَلَّصَ مِنْ إِشَارَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، الْمُوجِبَةِ لِحُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، الْمُوجِبِ لِدَعْوَاهُ. فَالسَّبَبُ سَتْرٌ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ. وَحِجَابٌ مُسْبَلٌ عَلَيْهِ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ فَقْرُهُ وَذُلُّهُ، وَامْتِهَانُهُ امْتِهَانَ الْعَبِيدِ وَالْفَعَلَةِ. فَيَتَخَلَّصُ مِنْ رُعُونَةِ دَعْوَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ إِذَا امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِمُعَاطَاةِ الْأَسْبَابِ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ.


- فَصْلٌ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: التَّوَكُّلُ مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ، وَغَضُّ الْعَيْنِ عَنِ السَّبَبِ؛ اجْتِهَادًا لِتَصْحِيحِ التَّوَكُّلِ، وَقَمْعًا لِشَرَفِ النَّفْسِ، وَتَفَرُّغًا إِلَى حِفْظِ الْوَاجِبَاتِ.
قَوْلُهُ: مَعَ إِسْقَاطِ الطَّلَبِ. أَيْ مِنَ الْخَلْقِ لَا مِنَ الْحَقِّ. فَلَا يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ لِلْمُرِيدِ. فَإِنَّ الطَّلَبَ مِنَ الْخَلْقِ فِي الْأَصْلِ مَحْظُورٌ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يُبَاحَ لِلضَّرُورَةِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ. وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي السُّؤَالِ: هُوَ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَظُلْمٌ فِي حَقِّ النَّفْسِ.
أَمَّا فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الذُّلِّ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَإِرَاقَةِ مَاءِ الْوَجْهِ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَالتَّعَوُّضِ عَنْ سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَرُّضِ لِمَقْتِهِ إِذَا سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ يَوْمَهُ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّاسِ فَبِمُنَازَعَتِهِمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالسُّؤَالِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ. وَأَبْغَضُ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِمْ مَنْ لَا يَسْأَلُهُمْ. فَإِنَّ أَمْوَالَهُمْ مَحْبُوبَاتُهُمْ، وَمَنْ سَأَلَكَ مَحْبُوبَكَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِكَ وَبُغْضِكَ.
وَأَمَّا ظُلْمُ السَّائِلِ نَفْسَهُ فَحَيْثُ امْتَهَنَهَا، وَأَقَامَهَا فِي مَقَامِ ذُلِّ السُّؤَالِ. وَرَضِيَ لَهَا بِذُلِّ الطَّلَبِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ لَعَلَّ السَّائِلَ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَعْلَى قَدْرًا. وَتَرَكَ سُؤَالَ مِنْ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . فَقَدْ أَقَامَ السَّائِلُ نَفْسَهُ مَقَامَ الذُّلِّ، وَأَهَانَهَا بِذَلِكَ. وَرَضِيَ أَنْ يَكُونَ شَحَّاذًا مِنْ شَحَّاذٍ مِثْلِهِ. فَإِنَّ مَنْ تَشْحَذُهُ فَهُوَ أَيْضًا شَحَّاذٌ مِثْلُكُ. وَاللَّهُ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
فَسُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ سُؤَالُ الْفَقِيرِ لِلْفَقِيرِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى كُلَّمَا سَأَلْتَهُ كَرُمْتَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْكَ، وَأَحَبَّكَ. وَالْمَخْلُوقُ كُلَّمَا سَأَلْتَهُ هُنْتَ عَلَيْهِ وَأَبْغَضَكَ وَمَقَتَكَ وَقَلَاكَ، كَمَا قِيلَ:

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ ... وَبَنِيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

وَقَبِيحٌ بِالْعَبْدِ الْمُرِيدِ: أَنْ يَتَعَرَّضَ لِسُؤَالِ الْعَبِيدِ. وَهُوَ يَجِدُ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُ .

- فَالتَّجَرُّدُ مِنَ الْأَسْبَابِ جُمْلَةً مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَحِسًّا.
نَعَمْ، قَدْ تَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا قُوَّةُ ثِقَةٍ بِاللَّهِ. وَحَالٌ مَعَ اللَّهِ تَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ كُلِّ سَبَبٍ مَفْرُوضٍ عَلَيْهِ. كَمَا تَحْمِلُهُ عَلَى إِلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي مَوَاضِعَ الْهِلْكَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بِاللَّهِ لَا بِهِ. فَيَأْتِيهِ مَدَدٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى مُقْتَضَى حَالِهِ. وَلَكِنْ لَا تَدُومُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ. وَلَيْسَتْ فِي مُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. فَإِنَّهَا كَانَتْ هَجْمَةٌ هَجَمَتْ عَلَيْهِ بِلَا اسْتِدْعَاءٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا. فَإِذَا اسْتَدْعَى مِثْلَهَا وَتَكَلَّفَهَا لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ. وَفِي تِلْكَ الْحَالِ إِذَا تَرَكَ السَّبَبَ يَكُونُ مَعْذُورًا لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَعَجْزِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالسَّبَبِ. فَيَكُونُ فِي وَارِدِهِ عَوْنٌ لَهُ. وَيَكُونُ حَامِلًا لَهُ. فَإِذَا تَعَاطَى تِلْكَ الْحَالَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَقَعَ فِي الْمحَالِ.
وَكُلُّ تِلْكَ الْحِكَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُحْكَى عَنِ الْقَوْمِ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ حَصَلَتْ لَهُمْ أَحْيَانًا، لَيْسَتْ طَرِيقًا مَأْمُورًا بِسُلُوكِهَا، وَلَا مَقْدُورَةً، وَصَارَتْ فِتْنَةً لِطَائِفَتَيْنِ.
طَائِفَةٌ ظَنَّتْهَا طَرِيقًا وَمَقَامًا، فَعَمِلُوا عَلَيْهَا. فَمِنْهُمْ مَنِ انْقَطَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَعَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهَا، بَلِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَطَائِفَةٌ قَدَحُوا فِي أَرْبَابِهَا، وَجَعَلُوهُمْ مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ. مُدَّعِينَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا أَكْمَلَ مِنْ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ قَطُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَلَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَقَدْ «ظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ» . وَلَمْ يَحْضُرِ الصَّفَّ قَطُّ عُرْيَانًا. كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ. وَاسْتَأْجَرَ دَلِيلًا مُشْرِكًا عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ. وَقَدْ هَدَى اللَّهُ بِهِ الْعَالَمِينَ، وَعَصَمَهُ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، «وَكَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ» وَهُوَ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَكَانَ إِذَا سَافَرَ فِي جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ أَوْعُمْرَةٍ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، وَهُمْ أُولُو التَّوَكُّلِ حَقًّا.

 وَأَكْمَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ بَعْدَهُمْ هُوَ مَنِ اشْتَمَّ رَائِحَةَ تَوَكُّلِهِمْ مِنْ مَسِيرَةٍ بَعِيدَةٍ، أَوْ لَحِقَ أَثَرًا مِنْ غُبَارِهِمْ. فَحَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالُ أَصْحَابِهِ مَحَكُّ الْأَحْوَالِ وَمِيزَانُهَا. بِهَا يُعْلَمُ صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا. فَإِنَّ هِمَمَهُمْ كَانَتْ فِي التَّوَكُّلِ أَعْلَى مِنْ هِمَمِ مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ تَوَكُّلَهُمْ كَانَ فِي فَتْحِ بَصَائِرِ الْقُلُوبِ. وَأَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَأَنْ يُوَحِّدَهُ جَمِيعُ الْعِبَادِ، وَأَنْ تُشْرِقَ شُمُوسُ الدِّينِ الْحَقِّ عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَمَلَئُوا بِذَلِكَ التَّوَكُّلِ الْقُلُوبَ هُدًى وَإِيمَانًا. وَفَتَحُوا بِلَادَ الْكُفْرِ وَجَعَلُوهَا دَارَ إِيمَانٍ. وَهَبَّتْ رِيَاحُ رَوْحِ نَسَمَاتِ التَّوَكُّلِ عَلَى قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ فَمَلَأَتْهَا يَقِينًا وَإِيمَانًا. فَكَانَتْ هِمَمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُهُمْ قُوَّةَ تَوَكُّلِهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللَّهِ فِي شَيْءٍ يَحْصُلُ بِأَدْنَى حِيلَةٍ وَسَعْيٍ، فَيَجْعَلُهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ قُوَى تَوَكُّلِهِ.

الثلاثاء، 23 فبراير 2016

طرق اكتساب الخلق الحسن

1- الدعـــاء .
2- الأخلاق تحتاج إلى نفسية طيبة ، وهذا يتحقق بالعبادة ( لا بد أن يكون المكان صالحا للزراعة ) .
3- اغتنام الفرص للتضحية والبذل .
4- جبر النفس على الخلق الحسن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ومن يتصبر يصبره الله ، ومن يستعفف يعفه الله ) .
5- تجنب الأمور اليسيرة من سوء الخلق ، مثل : ترك الكذب ولو مزحا .
6- تعويد النفس على الأخلاق الفاضلة ولو يسيرة ( عكس التي قبلها) ، مثل : السلام ، الابتسامة.
7- مصاحبة أهل الفضل والصلاح والخلق، لأن الشخص يتأثر بالخلق ولو بغير اختياره، في الحديث ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء ) فالريح الطيبة والإحراق بغير اختيار.
8- قراءة سيَر الفضلاء .
9- إظهار العناية بالأخلاق الفاضلة وأهلها .
10- المسارعة للأخذ بالخلق الحسن إذا عرفت فضله، في الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لأحب هذا، قال : (أعلمته) ، قال : لا ، قال : ( أعلِمه ) .
11- معاقبة الإنسان نفسه حتى تستقيم .
12- التعاون بين الناس على اكتساب الخلق ، فمثلا : يتفق صحبة في سفر على ترك الغيبة، وكل من اغتاب يسكتونه .
13- معرفة فضائل الأخلاق وعواقب رذائل الأخلاق .
14- قطع المحركات للأخلاق الرديئة من داخل النفس وخارجها .
15- العناية بأصول الأخلاق ، فبعضها يدل على بعض ويولد بعضها بعضا .
16- المسارعة إلى الخيرات ، وهي أفضل من المنافسة، المسارعة : تكون دون الالتفات للآخرين فعلوا أم لم يفعلوا .
17- تسلية النفس بالمباحات .


من فوائد الشيخ الدكتور عبدالله العمرو، قسم الثقافة الإسلامية، كلية الشريعة، جامعة الإمام بالرياض .

السبت، 13 فبراير 2016

مراتب المحبة من مدارج السالكين ، من الشاملة

 

[فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ الْمَحَبَّةِ]

أَوَّلُهَا: الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:

 أَعَلَاقَةً أُمَّ الْوَلِيدِ بُعَيْدَ مَا ... أَفْنَانُ رَأْسِكِ كَالثَّغَامِ الْمُخْلِسِ.

الثَّانِيَةُ: الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ.
الثَّالِثَةُ: الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ. كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ. فَاسْمُ الصِّفَةِ مِنْهَا صَبٌّ وَالْفِعْلُ صَبَا إِلَيْهِ يَصْبُو صَبًا، وَصَبَابَةً، فَعَاقَبُوا بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمُعْتَلِّ، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ مِنَ الْمُعْتَلِّ وَالصِّفَةَ مِنَ الْمُضَاعَفِ. وَيُقَالُ: صَبَا وَصَبْوَةً، وَصَبَابَةً. فَالصَّبَا: أَصْلُ الْمَيْلِ. وَالصَّبْوَةُ: فَوْقَهُ، وَالصَّبَابَةُ: الْمَيْلُ اللَّازِمُ. وَانْصِبَابُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ.

 الرَّابِعَةُ: الْغَرَامُ وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يُلَازِمُهُ كَمُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ. وَمِنْهُ سُمِّيَ عَذَابُ النَّارِ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِأَهْلِهِ. وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] .

 الْخَامِسَةُ: الْوِدَادُ وَهُوَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، مَرَاتِبُهَا عَشَرَةٌ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا، وَالْوَدُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَفِيهِ قَوْلَانِ:

 أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَوْدُودُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ.

 وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْوَادُّ لِعِبَادِهِ. أَيِ الْمُحِبُّ لَهُمْ. وَقَرَنَهُ بِاسْمِهِ الْغَفُورِ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيُحِبُّ التَّائِبَ مِنْهُ، وَيَوَدُّهُ. فَحَظُّ التَّائِبِ: نَيْلُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ.

 وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ " الْوَدُودُ " فِي مَعْنًى يَكُونُ سِرُّ الِاقْتِرَانِ. أَيِ اقْتِرَانُ " الْوَدُودِ بِالْغَفُورِ " اسْتِدْعَاءَ مَوَدَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْغَفُورِ.

 السَّادِسَةُ: الشَّغَفُ يُقَالُ: شُغِفَ بِكَذَا. فَهُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ. وَقَدْ شَغَفَهُ الْمَحْبُوبُ. أَيْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ. كَمَا قَالَ النِّسْوَةُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :

 أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحُبُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَحْجُبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَجَبَ حُبُّهُ قَلْبَهَا حَتَّى لَا تَعْقِلَ سِوَاهُ.

 الثَّانِي: الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: الْمَعْنَى أَحَبَّتْهُ حَتَّى دَخَلَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا، أَيْ دَاخِلَهُ.

 الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى غِشَاءِ الْقَلْبِ. وَالشَّغَافُ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا وَصَلَ الْحُبُّ إِلَيْهِ بَاشَرَ الْقَلْبَ. قَالَ السُّدِّيُّ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ عَلَى الْقَلْبِ. يَقُولُ: دَخَلَهُ الْحُبُّ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ.

 وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ " شَعَفَهَا " بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. وَمَعْنَاهُ: ذَهَبَ الْحُبُّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَبَلَغَ بِهَا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ: شَعَفُ الْجِبَالِ، لِرُءُوسِهَا.

 السَّابِعَةُ: الْعِشْقُ وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ الْعِشْقُ.
وَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - شَابٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ يَعْرِفُهُ - قَدْ صَارَ كَالْخَلَالِ. فَقَالَ: مَا بِهِ؟ قَالُوا: الْعِشْقُ. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَامَّةَ دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الْعِشْقِ.

 وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ :
 
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعَشَقَةِ - مُحَرَّكَةً - وَهِيَ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، فَشُبِّهَ بِهِ الْعَاشِقُ.

 وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ. وَإِنْ أَطْلَقَهُ سَكْرَانُ مِنَ الْمَحَبَّةِ قَدْ أَفْنَاهُ الْحُبُّ عَنْ تَمْيِيزِهِ. كَانَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ.

 الثَّامِنَةُ: التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ. يُقَالُ: تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ ذَلَّلَهُ وَعَبَّدَهُ. وَتَيْمُ اللَّهُ: عَبْدُ اللَّهِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيُتْمِ - الَّذِي هُوَ الِانْفِرَادُ - تَلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَتَنَاسُبٌ فِي الْمَعْنَى. فَإِنَّ الْمُتَيَّمَ الْمُنْفَرِدُ بِحُبِّهِ وَشَجْوِهِ. كَانْفِرَادِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَكْسُورٌ ذَلِيلٌ. هَذَا كَسَرَهُ يُتْمٌ. وَهَذَا كَسَرَهُ تَتَيُّمٌ.

 التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ. بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا.

 وَلَمَّا كَمَّلَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ: وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ. مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، كَقَوْلِهِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ. كَقَوْلِهِ {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وَمَقَامِ التَّحَدِّي كَقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ - بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ".

 سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: فَحَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ. بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ.

 وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ: الْحُبُّ التَّامُّ، مَعَ الذُّلِّ التَّامِّ وَالْخُضُوعِ لِلْمَحْبُوبِ. تَقُولُ الْعَرَبُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَسَهَّلَتْهُ.

 الْعَاشِرَةُ: مَرْتَبَةُ الْخُلَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْخَلِيلَانِ - إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» . وَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ. وَهُمَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ. وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ.

 وَالْخُلَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ:

 قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَلِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلَا.

وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أُمِرَ الْخَلِيلُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْخُلَّةُ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ. فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ. فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ. لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمَ مِنْ قَلْبِهِ. فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جَازِمًا: حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ. فَلَمْ يَبْقَ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْوَلَدِ مَصْلَحَةٌ. فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ لَهُ: {يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104] أَيْ عَمِلْتَ عَمَلَ الْمُصَدِّقِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] نَجْزِي مَنْ بَادَرَ إِلَى طَاعَتِنَا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَمَا أَقْرَرْنَا عَيْنَكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرَنَا، وَإِبْقَاءِ الْوَلَدِ وَسَلَامَتِهِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ. فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهُوَ بَلَاءُ مِحْنَةٍ وَمِنْحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا.
وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا بِهَا خَوَاصُّ خَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ مِنْهُمْ. فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُجِيبُ دَاعِيهَا. وَلَا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِهَا. وَأَهْلُهَا هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي وَسَطِ قَبْضَةِ الْيَمِينِ يَوْمَ الْقَبْضَتَيْنِ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْيَمِينِ فِي أَطْرَافِهَا.