الخميس، 25 مايو 2023

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 1

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 1


- وقد ذكرنا ما تضمَّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية.

- وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم"، وبيَّنَّا بعضَ ما فيها من الأسرار والعِبَر.

قال المحقق: يقصد إعلام الموقعين.

- (ونحن أقرب إليه) وقال شيخُنا : المرادُ بقوله: {نَحْنُ}؛ أي: ملائكتُنا؛ كما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) } [القيامة: ١٨]؛ أي: إذا قرأه عليك رسولُنا جبريلُ. قال: ويدلُّ عليه قولُه: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: ١٧]؛ فقُيِّدَ القربُ المذكورُ بتلقِّي المَلَكَيْنِ، ولو كان المرادُ به قربَ الذاتِ لم يَتَقَيَّدْ بوقتِ تلقِّي الملكين.

- الثالثة : أنه مَنَّاعٌ للخير، وهذا يَعُمُّ منعَهُ للخيرِ الذي هو إحسانٌ إلى نفسِهِ من الطاعاتِ والقُرَبِ إلى الله، والخير الذي هو إحسانٌ إلى الناس؛ فليس فيه خيرٌ لنفسِهِ ولا لبنَي جنسِهِ؛ كما هو حالُ أكثرِ الخَلْقِ.

- وقد استوفَينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاءِ والقدر.

- ولما كان الحُزْنُ والهمُّ والغمُّ يُضادُّ حياة القلبِ واستنارتَهُ؛ سألَ أن يكون ذَهابُها بالقرآن؛ فإنَّها أحرى أن لا تعود، وأما إذا ذَهبتْ بغير القرآن من صحةٍ أو دنيا أو جاهٍ أو زوجةٍ أو ولدٍ؛ فإنَّها تعودُ بذهاب ذلك. والمكروه الواردُ على القلب: إن كان من أمرٍ ماضٍ؛ أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل؛ أحدث الهمَّ، وإن كان من أمرٍ حاضرٍ؛ أحدث الغَمَّ. والله أعلم.

- • لمَّا طلب آدمُ الخلود في الجنة من جانب الشجرة؛ عُوقِب بالخُروج منها، ولما طلب يوسفُ الخروج من السجن من جهة صاحب الرُّؤيا؛ لبث فيه بضع سنين.

- • قلةُ التوفيق، وفسادُ الرأي، وخفاءُ الحقِّ، وفسادُ القلبِ، وخُمولُ الذِّكْر، وإضاعةُ الوقت، ونفرةُ الخلق، والوحشةُ بين العبد وبين ربِّه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحقُ البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم،، ولباس الذُّلِّ، وإدالةُ العدوِّ، وضيقُ الصدر، والابتلاءُ بقُرَناءِ السَّوءِ الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهمِّ والغمِّ، وضنْكُ المعيشة، وكسفُ البال: تتولَّدُ من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولَّدُ الزرعُ عن الماء والإحراقُ عن النار. وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعة.

- • سبَقَ العلمُ بنبوَّةِ موسى وإيمانِ آسية، فَسِيقَ تابوتُهُ إلى بيتها، فجاء طفلٌ منفردٌ عن أمٍّ، إلى امرأةٍ خاليةٍ عن ولدٍ! فللهِ كم في هذه القصة من عبرةٍ! كم ذَبَحَ فرعونُ في طلب موسى من ولدٍ، ولسانُ القَدَرِ يقولُ: لا نُربِّيهِ إلّا في حِجْرِكَ!!

- • القواطعُ مِحَنٌ يتبيَّنُ بها الصادقُ من الكاذبِ؛ فإذا خُضْتَها انقلبتْ أعوانًا لك توصِلُك إلى المقصودِ.

- من أعجبِ الأشياءِ: أن تعرِفَه ثم لا تحبَّهُ، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخَّر عن الإجابة، وأن تعرفَ قدرَ الربح في معاملتِهِ ثم تعامل غيرَهُ، وأن تعرف قدْر غضبهِ ثم تتعرَّض له، وأن تذوقَ ألمَ الوَحْشةِ في معصيتِهِ ثم لا تَطْلُبَ الأنسَ بَطاعتِهِ، وأن تذوقَ عُصْرةَ القلبِ عند الخوْض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصَّدْرِ بذِكْرِهِ ومناجاتِهِ، وأن تذوقَ العذابَ عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!! وأعجبُ من هذا علمُك أنَّك لا بدَّ لك منهُ وأنَّك أحوجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِضٌ وفيما يُبعِدُك عنه راغبٌ!!

- • إذا خَرَجَتْ مِن فِي عَدُوِّكَ لفظةُ سَفَهٍ فلا تُلْحِقْها بمِثْلِها؛ تُلَقِّحْها، ونَسْلُ الخصام نَسْلٌ مذمومٌ.

- • أوْثِقْ غضبَكَ بسلسلة الحِلْم؛ فإنَّه كلبٌ؛ إنْ أَفْلَتَ أَتلفَ.

- • لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسُّنَةِ والمحاكمةِ إليهما، واعتقدوا عدمَ الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراءِ والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ؛ عرضَ لهم من ذلك فسادٌ في فِطَرِهم، وظلمةٌ في قلوبِهِم، وكدَرٌ في أفهامِهِم، ومَحْقٌ في عقولِهِم، وعَمَّتْهم هذه الأمورُ وغلبتْ عليهم؛ حتى رُبِّيَ فيها الصغيرُ، وهَرِمَ عليها الكبيرُ، فلم يَرَوْها منكرًا!

فجاءتهمْ دولةٌ أخرى قامتْ فيها البدَعُ مقامَ السُّنَنِ، والنفسُ مقامَ العقل، والهوى مقام الرُّشدِ، والضلالُ مقام الهدى، والمنكرُ مقامَ المعروفِ، والجهلُ مقام العلم، والرِّياءُ مقامَ الإخلاصِ، والباطلُ مقام الحقِّ، والكذِبُ مقامَ الصِّدْقِ، والمداهنةُ مقام النصيحة، والظلمُ مقام العدل؛ فصارت الدولةُ والغلبَةُ لهذه الأمور، وأهلُها هم المشارَ إليهم، وكانتْ قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلُها هم المشارَ إليهم.

• فإذا رأيتَ دولةَ هذه الأمور قد أقبلتْ، وراياتُها قد نُصِبَتْ، وجيوشُها قد رَكِبَتْ؛ فبطنُ الأرض والله خيرٌ من ظهرها، وقُلَلُ الجبال خيرٌ من السهول، ومخالطةُ الوحشِ أسلمُ من مخالطةِ الناس.

اقشعرَّتِ الأرضُ وأظلمتِ السماءُ وظهر الفسادُ في البرِّ والبحر من ظلم الفَجَرَةِ، وذهبتِ البركاتُ وقلَّتِ الخيراتُ وهزُلتِ الوحوشُ وتكدَّرتِ الحياةُ من فسق الظَّلَمَةِ، وبكى ضوءُ النهارِ وظلمةُ الليل من الأعمال الخبيثةِ والأفعال الفظيعةِ، وشكا الكرامُ الكاتبون والمُعَقِّباتُ إلى ربِّهم من كثرةِ الفواحش وغلبةِ المنكرات والقبائحِ. وهذا والله مُنذِرٌ بسَيلِ عذابٍ قد انعقد غمامُهُ، ومُؤذِنٌ بليل بلاءٍ قد ادْلهَمَّ ظلامُهُ؛ فاعزِلوا عن طريق هذا السَّيل بتوبةٍ نَصوح ما دامتِ التوبةُ ممكنةً وبابُها مفتوحٌ! وكأنَّكم بالباب وقد أُغْلِقَ، وبالرهنِ وقد غَلِقَ (١)، وبالجَناح وقد عَلِقَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)} [الشعراء: ٢٢٧].


- قاعدة

ليس في الوجود الممكن سببٌ واحدٌ مستقلٌّ بالتأثير، بل لا يُؤثِّرُ سببٌ البتةَ إلا بانضمامِ سببٍ آخر إليه وانتفاءِ مانع يمنعُ تأثيرهُ. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنويَّةِ؛ كتأثير الشمس في الحيوان والنباتِ؛ فإنَّه موقوفٌ على أسباب أخر من وجود محلٍّ قابل وأسبابٍ أخَرَ تنضمُّ إلى ذلك السبب، وكذلك حصولُ الولد موقوفٌ على عدةِ أسَبابٍ غيرِ وطءِ الفَحْل، وكذلك جميعُ الأسباب مع مسبَّباتها. فكل ما يُخافُ ويُرْجَى من المخلوقاتِ؛ فأعلى غاياتِهِ أن كون جزءَ سببٍ غيرَ مستقلٍّ بالتأثيرِ.

ولا يَستقلُّ بالتأثيرِ وحدَه دون توقُّفِ تأثيرِهِ على غيرِهِ إلَّا اللهُ الواحدُ القَهَّارُ؛ فلا ينبغي أن يُرْجى ولا يُخافَ غيرُهُ.

وهذا برهانٌ قطعيٌّ على أنَّ تعلُّق الرجاء والخوف بغيره باطلٌ؛ فإنَّه لو فُرض أنَّ ذلك سببٌ مستقلٌّ وحدَه بالتأثير لكانتْ سببيَّتُهُ من غيرِهِ لا منه، فليس لهُ من نفسِهِ قوةٌ يَفْعَلُ بها؛ فإنَّه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله؛ فهو الذي بيدِهِ الحَوْلُ كلُّه والقوةُ كلُّها؛ فالحولُ والقوةُ التي يُرْجى لأجلِهِما المخلوقُ ويُخافُ إنَّما هما لله وبيدِهِ في الحقيقة؛ فكيف يُخافُ ويُرْجى من لا حولَ له ولا قوة؟!

بل خوفُ المخلوقِ ورجاؤُهُ أحدُ أسبابِ الحرمانِ .


- • ما في هذه الدار موْضِعُ خَلْوَةٍ؛ فاتَّخِذْهُ في نفسِكَ.

- ماذا يملِكُ مِنْ أمرهِ مَن ناصِيَتُه بيد الله، ونفسُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ يقلِّبُهُ كيف يشاء، وحياتُهُ بيدِهِ، وموتُهُ بيدِهِ، وسعادتُهُ بيدِهِ، وَشقاوتُهُ بيدِهِ، وحركاتُهُ وسكناتُهُ وأقوالُهُ وأفعالُهُ بإذنِهِ ومشيئتِهِ؛ فلا يتحرَّكُ إلا بإذنِهِ، ولا يفعلُ إلَّا بمشيئتِهِ. إنْ وَكَلَهُ إلى نفسه وكَلَه إلى عجزٍ وضيعةٍ وتفريطٍ وذنب وخطيئةٍ، وإن وكَلَه إلى غيره وكلَهُ إلى منْ لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وإن تخلَّى عنه استولى عليه عدوُّهُ، وجعلَهُ أسيرًا له. فهو لا غِنى له عنه طَرْفَةَ عينٍ، بل هو مضطرٌّ إليه على مدى الأنفاسِ في كلِّ ذرَّةٍ من ذَرَّاتِهِ باطنًا وظاهرًا، فاقتُهُ تامَّةٌ إليه. ومع ذلك فهو متخلِّفٌ عنه، مُعْرِضٌ عنه، يتبغَّضُ إليه بمعصيتِهِ، مع شدَّة الضرورة إليه من كلِّ وجهٍ، قد صار لِذِكْرِهِ نَسِيًّا، واتَّخذه وراءَهُ ظِهْرِيًّا. هذا؛ وإليه مرجعُهُ، وبين يديهِ موقفُهُ؟!

- • أصولُ الخطايا كلِّها ثلاثةٌ: الكبْرُ: وهو الذي أصار إبليسَ إلى ما أصارهُ، والحِرْصُ: وهو الذي أخرج آدم من الجنَّة، والحسدُ: وهو الذي جَرَّأ أحدَ ابنَي آدمَ على أخيهِ؛ فمنْ وُقِي شَرَّ هذه الثلاثة فقد وُقِيَ الشَّرَّ؛ فالكفرُ من الكِبر، والمعاصي من الحِرْص، والبَغْيُ والظُّلْمُ من الحسد.

- جمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَبِ"  بين مصالح الدُّنيا والآخرةِ.

فنعيمُها ولَذَّتُها إنما يُنال بتقوى الله.

وراحةُ القلب والبدنِ وتركُ الاهتمامِ والحِرْصِ الشَّديدِ والتَّعَب والعَناءِ والكدِّ والشَّقاءِ في طلبِ الدُّنيا إنَّما يُنالُ بالإجمال في الطَّلَبِ.

فمنِ اتَّقى الله فازَ بلذَّةِ الآخرة ونعيمِها، ومن أجْمَلَ في الطَّلَب استراحَ من نَكَدِ الدُّنيا وهمومها. فالله المستعانُ.

قدْ نادتِ الدُّنيا على نَفْسِها ... لَوْ كان في ذا الخَلْقِ مَنْ يَسْمَعُ

كَمْ واثِقٍ بالعيشِ أهْلَكْتُهُ ... وجامِعٍ فَرَّقْتُ ما يَجْمَعُ 


- • لا بُدَّ من نفوذ القدر؛ فاجنَحْ للسلْم.

- كانت تحفةُ {ثَانِيَ اثْنَينِ} [التوبة: ٤٠] مُدَّخرةً للصديق دونَ الجميع؛ فهو الثاني في الإسلام وفي بذل النفس وفي الزُّهد وفي الصُّحبة وفي الخلافة وفي العمر وفي سبب الموت؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات عن أثر السُّمِّ ، وأبو بكر سُمَّ فمات  .

أسلمَ على يديه من العشرة عثمان وطلحة والزُّبير وعبدُ الرحمن بن عوف وسعدُ بن أبي وقَّاص.

- • سبحان الله! في النفس: كِبْرُ إبليسُ، وحسدُ قابيل، وعُتُوُّ عادٍ، وطغيانُ ثمودَ، وجرأةُ نمرود، واستطالةُ فرعون، وبَغْيُ قارون، وقِحَةُ هامان، وهَوَى بَلْعام، وحِيَلُ أصحابِ السبت، وتمرُّدُ الوليد، وجهل أبي جهل.

وفيها من أخلاق البهائم: حِرصُ الغُراب، وشَرَهُ الكلب، ورُعونة الطاووس، ودناءة الجُعَل، وعقوق الضبِّ، وحِقدُ الجمل، ووثوبُ الفهد، وصَولةُ الأسد، وفِسقُ الفأرة، وخُبثُ الحية، وعَبَثُ القرد، وجمعُ النملة، ومكر الثعلب، وخِفَّةُ الفَراش، ونوم الضَّبُع. غير أنَّ الرياضة والمجاهدة تُذْهِبُ ذلك.

- • أصولُ المعاصي كلِّها -كبارها وصغارها- ثلاثةٌ: تعلُّقُ القلبِ بغير الله، وطاعةُ القوة الغضبيَّة، والقوة الشهوانيَّةِ.

وهي: الشركُ، والظلمُ، والفواحشُ.

فغايةُ التعلُّق بغير الله: الشركُ وأن يُدْعى معه إلهٌ آخرُ، وغايةُ طاعة القوَّة الغضبيَّة: القتلُ، وغايةُ طاعة القوَّةِ الشهوانيَّة: الزِّنى.

ولهذا جمعَ الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨].

وهذه الثلاثةُ يدعو بعضُها إلى بعضٍ.

- وإنْ كان السببُ مباحًا نظرتَ: هل يُضْعِفُ قيامُك به التوكُّلَ أو لا يُضعِفُه؟ فإن أضعفَه وفرَّقَ عليك قلبَك وشتَّتَ همَّك فتركُهُ أوْلى. وإن لم يُضعِفْهُ فمباشرتُه أولى؛ لأنَّ حكمةَ أحكم الحاكمين اقتضَتْ ربط المسبَّب به؛ فلا تُعطِّلْ حكمتَه مهما أمكنك القيامُ بها، ولا سيَّما إذا فعلتَهُ عبوديَّةً، فتكون قد أتيتَ بعبوديَّةِ القلبِ بالتوكُّل، وعبوديَّةِ الجوارحِ بالسببِ المَنْويِّ به القُرْبَةُ.

- فعامةُ مصالح النفوس في مكروهاتها؛ كما أن عامةَ مَضارِّها وأسباب هَلَكَتِها في محبوباتها.

- فإيثارُ الدُّنيا على الآخرة: إما من فسادٍ في الإيمان، وإما من فسادٍ في العقل، وما أكثرَ ما يكون منهما.

- ويكفي في الزُّهد في الدُّنيا:

قوله تعالى: {أَفَرَأَيتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)} [الشعراء: ٢٠٥ - ٢٠٧].

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَينَهُمْ} [يونس: ٤٥].

وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)} [الأحقاف: ٣٥].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)} [النازعات: ٤٢ - ٤٦].

وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ} [الروم: ٥٥].

وقوله: {قَال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَال إِنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)} [المؤمنون: ١١٢ - ١١٤].

وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَينَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلا يَوْمًا (١٠٤)} [طه: ١٠٢ - ١٠٤].

والله المستعان وعليه التكلان.

- فصل

من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحةٍ أو فرارٍ من سقم، وعلمَ أنَّ الله على كل شيء قديرٌ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأنَّ تدبيره لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرُّ به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخَّر عن تدبيره له خطوةً واحدةً؛ فلا متقدمَ له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر؛ فألقى نفسه بين يديه، وسلَّم الأمرَ كلَّه إليه، وانطرحَ بين يديه انطراحَ عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرفُ فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحملَ كَلَّه وحوائجَه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا تُثقِله ولا يَكترِثُ بها، فتولَّاها دونه، وأراه لطفَه وبِرَّهُ ورحمته وإحسانه فيها؛ من غير تعب من العبد ولا نَصَبٍ ولا اهتمام منه؛ لأنَّه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها؛ فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ قلبَه وأعظمَ سرورَه وفرحَه!.


الجمعة، 12 مايو 2023

مختارات من : جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - لابن القيم رحمه الله تعالى

مختارات من : جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - لابن القيم رحمه الله تعالى


وهو كتاب فرد في معناه، لم نُسْبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها. بيَّنَّا فيه الأحاديث الواردة في  الصَّلاة والسَّلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، وصحيحها من حسنها ومعلولها وبَيَّنَّا ما في معلولها من العلل بيانًا شافيًا، ثمَّ أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثمَّ في مواطن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ومحالها، ثمَّ الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح وتزْييف المزيَّف، ومَخْبَر الكتاب فوق وَصْفه، والحمد لله ربِّ العالمين .


ولهذا كان القول الصحيح، وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله: أن الصَّدَقة تَحْرُم عليهِنَّ.


خديجة رضي الله عنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين في الأصح.


ألف المصنف كتاب الروح قبل هذا.


 فالصدق أن لا ينقسم طلبك، والإخلاص أن لا ينقسم مطلوبك، الأول: توحيد الطلب، والثاني: توحيد المطلوب.


وأكثر ما يأتي فعيلًا في أسمائه تعالى بمعنى فاعل؛ كسميع، وبصير، وعليم، وقدير، وعليٍّ، وحكيم، وحليم، وهو كثير. وكذلك فعول؛ كغفور، وشكور، وصبور.


ومثال ما يترجح فيه أحد الألفاظ حديث الاستخارة، فإن الراوي شك هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

٣٢٤ - "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري"، أو قال: "وعاجل أمري وآجله"، بدل: "وعاقبة أمري"، والصحيح اللفظ الأول، وهو قوله: "وعاقبة أمري" لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله: "ديني ومعاشي، وعاقبة أمري" فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارًا، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه؛ فإن المعاش هو عاجل الأمر، والعاقبة آجله.



٣٢٥ - ومن ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن قَرَأَ عَشْر آياتٍ مِنْ أوَّلِ سُوْرَة الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتنة الدَّجَّال"، رواه مسلم . واختلف فيه، فقال بعض الرواة : "من أول سورة الكهف"، وقال بعضهم: "من آخرها"؛ وكلاهما في الصحيح"، لكن الترجيح لمن قال: "من أول سورة الكهف" لأن في "صحيح مسلم" من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان في قصة الدجال:

٣٢٦ - "فَإذَا رأيْتُمُوه فَاقْرَأوا عَلَيْه فَوَاتِحَ سُوْرَة الكَهْفِ" ولم يُخْتلف في ذلك، وهذا يدل على أنَ مَنْ روى العشر من أوِّل السورة حفظ الحديث، ومن روى من آخرها لم يحفظه.


أن حديث المسيء هذا قد جعله المتأخرون مستندًا لهم في نفي كل ما ينفون وجوبه، وحمَّلُوه فوق طاقته، وبالغوا في نفي ما اختلف في وجوبه به . فمن نفى وجوب الفاتحة احتجَّ به، ومن نفى وجوب التشهد احتجَّ به، ومن نفى وجوب التسليم احتج به، ومن نفى وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - احتج به، ومن نفى وجوب أذكار الركوع، والسجود، وركني الاعتدال احتج به، ومن نفى وجوب تكبيرات الانتقال احتج به. وكل هذا تساهل واسْتِرْسَال في الاستدلال، وإلا فعند التحقيق لا ينفي وجوب شيء من ذلك، بل غايته أن يكون قد سكت عن وجوبه ونفيه، فإيجابه بالأدلة الموجبة له لا يكون معارضًا به.


مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة  (وأما وجوبها فلم نرَ فيه دليلًا يجب المصير إليه و إلى مثله. والله أعلم).


وادعى ابن جرير فيه الإجماع. وهذا على أصله، فإنه إذا رأى الأكثرين على قول، جعله إجماعًا يجب اتباعه.


العشرون: أنها لسب لتذكر العبد ما نَسِيَه.


الثانية والعشرون: أنها سبب لنفي الفقر.


الحادية والثلاثون: أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره، وأسباب مصالحه، لأن المصلي داعٍ ربه أن يبارك عليه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه.


وهو أنواع:

- ذكْرُه بأسمائه، وصفاته، والثناء عليه بها .

- الثاني: تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذِّكر عند المتأخرين .

- الثالث: ذِكْرُه بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذِكْرُ أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي ذِكْرُهم لربِّهم.

- ومن أفضل ذِكْرِهِ ذِكْرُهُ بكلامه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)} [طه: ١٢٤]، فذِكْرُهُ هنا: كلامُه الذي أنْزله على رسوله، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)} [الرعد: ٢٨].

- ومن ذِكْره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتَضرُّع إليه.

فهذه خمسة أنواع من الذِّكْر.