الاثنين، 12 يونيو 2023

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 2 الأخير

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 2

- من اشتغل بالله عن نفسه كفاهُ الله مؤونَة نفسِه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونةَ الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وَكَلهُ الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وَكَلهُ الله إليهم.

- وقولهم: "من ترك لله شيئًا عوَّضَه الله خيرًا منه" حقٌّ، والعوضُ أنواعٌ مختلفة، وأجلُّ ما يعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينةُ القلب به، وقوَّتُه، ونشاطُه، وفرحُه، ورضاهُ عن ربِّه تعالى.

- قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)} [الأنعام: ٥٥].

وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: ١١٥].

والله تعالى قد بيَّن في كتابه سبيلَ المؤمنين مفصلةً وسبيلَ المجرمين مفصلةً، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفَّق بها هؤلاء والأسباب التي خَذَل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشَفَهما وأوضحَهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتْهما البصائرُ كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.

فإنَّ اللَّبس إنما يقع إذا ضَعُفَ العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطَّاب: إنما تُنْقَضُ عُرى الإسلام عُروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهليةَ. وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه؛ فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه من الجاهلية؛ فإنها منسوبة إلى الجهل، وكلُّ ما خالف الرسول فهو من الجهل؛ فمن لم يعرِفْ سبيلَ المجرمين ولم تستبن له؛ أوشك أن يظنَّ في بعض سبيلهم أنَّها من سبيل المؤمنين؛ كما وقع في هذه الأمة من أمورٍ كثيرةٍ في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلَها من لم يَعرِفْ أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفَّر من خالفها، واستحلَّ منه ما حرمه الله ورسوله؛ كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممَّن ابتدع بدعةً ودعا إليها وكفَّر من خالفها.


- فصل
من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحةٍ أو فرارٍ من سقم، وعلمَ أنَّ الله على كل شيء قديرٌ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأنَّ تدبيره لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرُّ به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخَّر عن تدبيره له خطوةً واحدةً؛ فلا متقدمَ له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر؛ فألقى نفسه بين يديه، وسلَّم الأمرَ كلَّه إليه، وانطرحَ بين يديه انطراحَ عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرفُ فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحملَ كَلَّه وحوائجَه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا تُثقِله ولا يَكترِثُ بها، فتولَّاها دونه، وأراه لطفَه وبِرَّهُ ورحمته وإحسانه فيها؛ من غير تعب من العبد ولا نَصَبٍ ولا اهتمام منه؛ لأنَّه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها؛ فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ قلبَه وأعظمَ سرورَه وفرحَه!.
وإن أبى إلا تدبيرَه لنفسه، واختيارَه لها، واهتمامَه بحظِّه، دون حقِّ ربه؛ خلَّاه وما اختاره، وولَّاه ما تولى، فحضره الهمُّ والغمُّ والحزن والنكَدُ والخوف والتعب وكسفُ البال وسوءُ الحال؛ فلا قلبَ يصفو، ولا عملَ يزكو، ولا أملَ يحصل، ولا راحةَ يفوزُ بها، ولا لذةَ يتهنَّأُ بها، بل قد حِيْلَ بينه وبين مسرَّته وفرحه وقرَّة عينه؛ فهو يَكدَحُ في الدنيا كَدْحَ الوحشِ، ولا يظفر منها بأمل، ولا يَتزوَّدُ منها لمعادٍ.
والله سبحانه قد أمر العبد بأمر، وضَمِنَ له ضمانًا؛ فإن قام بأمره بالنُّصح والصدق والإخلاص والاجتهاد؛ قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر وقضاء الحوائج؛ فإنه سبحانه ضَمِنَ الرزقَ لمن عبده، والنصرَ لمن توكل عليه واستنصر به، والكفايةَ لمن كان هو همَّه ومرادَه، والمغفرةَ لمن استغفرهُ، وقضاءَ الحوائج لمن صدقه في طلبها ووَثِقَ به وقوي رجاؤهُ وطمعُه في فضله وجودِهِ؛ فالفَطِنُ الكيِّسُ إنما يَهتمُّ بأمره وإقامته وتوفيقه لا بضمانه؛ فإنه الوفيُّ الصادقُ، ومن أوفى بعهده من الله؟! فمن علامات السعادة صرفُ اهتمامه إلى أمر الله دون ضمانه، ومن علامات الحرمان فراغُ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه.
والله المستعانُ.


- فإنَّ الهداية لا نهاية لها، ولو بلغ العبدُ فيها ما بلغ؛

- ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلِّها الصدق، وأضدادُها من الرِّياء والعُجْب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبن والمهانة وغيرها أصلها الكذبُ؛ فكلُّ عمل صالح ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الصدق، وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الكذبُ.
والله تعالى يعاقب الكذابَ بأن يُقعِده ويُثبِّطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيِب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته؛ فما استُجِلبَتْ مصَالحُ الدُّنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدُهما ومضارُّهما بمثل الكذب.


- فصل
الصبرُ على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُهُ الشهوةُ؛ فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبةً، وإمّا أن تقطع لذَّةً أكملَ منها، وإما أن تُضيِّع وقتًا إضاعتُهُ حسرةٌ وندامةٌ، وإما أن تَثْلم عِرضًا توفيرُهُ أنفعُ للعبد من ثَلمِه، وإما أن تُذهِبَ مالًا بقاؤُهُ خيرٌ له من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامُهُ خيرٌ من وضعه، وإما أن تَسْلُب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيبُ من قضاء الشهوة، وإما أن تُطرِّق لوضيعٍ إليك طريقًا لم يكن يجدُها قبل ذلك، وإما أن تَجلِب همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقاربُ لذَّةَ الشهوة، وإمَّا أن تُنسِي علمًا ذِكرُه ألذُّ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمِّت عدوًّا وتُحزِن وليًّا، وإما أن تقطع الطريقَ على نعمةٍ مقبلةٍ، وإما أن تُحدِثَ عيبًا يبقى صفةً لا تزولُ؛ فإن الأعمال تُورِثُ الصفاتِ والأخلاقَ.

- وضابط هذا كُلِّه العدلُ، وهو الأخذُ بالوسطِ الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناءُ مصالح الدُّنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلَّا به؛ فإنه متى خرج بعضُ أخلاطِه عن العدل وجاوزه أو نقصَ عنه ذهبَ من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعيةُ كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك؛ إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفتْ إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرتْ نقصًا.
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي؛ فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخلٌ فيها. قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: ٩٧].
فأعدلُ الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفةً وفعلًا.
وبالله التوفيقُ.


- فصل
أصلُ الأخلاق المذمومة كلِّها الكِبرُ والمهانة والدَّناءةُ.
وأصلُ الأخلاق المحمودة كلِّها الخشوعُ وعلوُّ الهمَّة.

فالفخرُ والبطرُ والأشرُ والعُجْبُ والحسدُ والبغيُ والخُيَلاءُ والظُّلمُ والقسوةُ والتجبُّرُ والإعراضُ وإباءُ قبول النصيحة والاستئثارُ وطلبُ العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يُحمَد بما لم يفعل وأمثالُ ذلك؛ كلُّها ناشئةٌ من الكبر.

وأمَّا الكذبُ والخِسَّةُ والخيانةُ والرِّياءُ والمكرُ والخديعةُ والطمع والفزعُ والجُبْنُ والبخلُ والعجزُ والكسلُ والذُّلُّ لغير الله واستبدالُ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ونحوُ ذلك؛ [فكلُّها] من المهانة والدَّناءة وصغر النفس.

وأمَّا الأخلاقُ الفاضلةُ؛ كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفَّة والصِّيانة والجود والحلم والعفو والصَّفْح والاحتمال والإيثار وعزَّة النفس عن الدَّناءات والتواضع والقناعة والصِّدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضلَ والتغافُل عن زلَّات الناس وترك الاشتغال بما لا يَعنِيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك؛ فكلُّها ناشئةٌ عن الخُشوع وعلوِّ الهمة.

والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنَّها تكونُ خاشعةً، ثم يَنزِلُ عليها الماء، فتهتزُّ وتربو وتأخذُ زينتها وبهجتها؛ فكذلك المخلوق منها إذا أصابهُ حظُّه من التوفيق.

وأمَّا النارُ فطبعُها العلوُّ والإفسادُ، ثم تخمُدُ فتصيرُ أحقرَ شيءٍ وأذلَّهُ، وكذلك المخلوقُ منها؛ فهي دائمًا بين العلو إذا هاجت واضطربت، وبين الخِسَّة والدَّناءة إذا خَمَدتْ وسكنتْ.

والأخلاق المذمومةُ تابعةٌ للنار والمخلوق منها، والأخلاقُ الفاضلةُ تابعةٌ للأرض والمخلوق منها؛ فمن عَلتْ همَّتُهُ وخشَعتْ نفسُه اتَّصف بكل خلق جميل، ومن دَنَتْ همته وطغَتْ نفسه اتَّصف بكلِّ خلق رذيل.


- [فصل: من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]

• قال رجلٌ عنده: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين، أُحِبُّ أن أكون من المقرَّبين! فقال عبد الله: لكن ها هنا رجلٌ ودَّ أنه إذا مات لم يُبْعَثْ. يعني نفسَه ، .. 
- والنساءُ حبائلُ الشيطان، .. 
- إنكم ترون الكافر من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتَلْقَون المؤمنَ من أصح الناس قلبًا وأمرضهم جسمًا.

- لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلَّا إقامةُ المروءة، وصونُ العِرض، وحفظُ الجاه، وصيانةُ المال الذي جعله الله قِوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبةُ الخلق، وجوازُ القول بينهم، وصلاحُ المعاش، وراحةُ البدن، وقوةُ القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُسَّاق والفُجَّار، وقلةُ الهمّ والغمّ والحزن، وعزُّ النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصونُ نور القلب أن تُطفئهُ ظلمةُ المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ، وتيسير ما عَسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدُّعاء له، والحلاوةُ التي يكتسبها وجهه، والمهابةُ التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارُهم وحميتُهم له إذا أُوذي وظُلِم، وذبُّهم عن عِرْضِه إذا اغتابه مغتابٌ، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُربُ الملائكة منه، وبعدُ شياطين الإنس والجنِّ منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودَّته وصحبته، وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربِّه ولقائه له ومصيره إليه، وصِغَرُ الدُّنيا في قلبه، وكِبَرُ الآخرة عنده، وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجدُ حلاوة الإيمان، ودعاءُ حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤُهم له كلَّ وقتٍ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرورٍ لا نسبةَ له إلى فرحِه وسروره بالمعصية بوجهٍ من الوجوه. فهذه بعضُ آثار ترك المعاصي في الدُّنيا.
فإذا مات تلقَّتْهُ الملائكةُ بالبُشرى من ربِّه بالجنة، وبأنَّه لا خوف عليه ولا حُزْن، وينتقلُ من سجن الدُّنيا وضيقها إلى روضةٍ من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة.
فإذا كان يومُ القيامة كان الناسُ في الحرِّ والعرَقِ، وهو في ظلِّ العرش.
فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذَ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.
و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: ٢١].


- فإذا أراد الله بعبده خيرًا أشهده منتَه وتوفيقه وإعانتَه له في كل ما يقوله ويفعله، فلا يُعجَب به، ثم أشهده تقصيره فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه منه ويستغفره ويستحيي أن يطلب عليه أجرًا. وإذا لم يُشهِده ذلك، وغيَّبهُ عنه، فرأى نفسه في العمل، ورآه بعين الكمال والرضى، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرِّضى والمحبة.
فالعارفُ يعمل العمل لوجهه، مشاهدًا فيه منته وفضلهُ وتوفيقه، معتذرًا منه إليه، مستحييًا منه إذ لم يُوفِّه حقَّهُ. والجاهل يعمل العمل لحظِّه وهواهُ، ناظرًا فيه إلى نفسه، يمُنُّ به على ربِّه، راضيًا بعمله. فهذا لونٌ وذاك لونٌ آخرُ.



- الوصول إلى المطلوب موقوف على هَجْر العوائد وقطع العوائق [والعلائق]:
فالعوائدُ: السكونُ إلى الدَّعَةِ والراحة وما أَلِفهُ الناس واعتادوهُ من الرسوم والأوضاع، التي جعلوها بمنزلة الشرع المتَّبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفّروه أو بدّعوه وضلَّلوه أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السُّنن، ونصبوها أندادًا للرسول يُوالون عليها ويُعادون؛ فالمعروفُ عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.
وهذه الأوضاعُ والرسومُ قد استولتْ على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفيَّة والفقراء والمطوِّعين والعامة؛ فرُبِّي فيها الصغير، ونشأ عليها الكبير، واتُّخِذت سننًا، بل هي أعظم عند أصحابها من السنن، الواقفُ معها محبوسٌ، والمتقيِّدُ بها منقطعٌ، عمَّ بها المُصابُ، وهُجِر لأجلها السنة والكتاب، من استنصر بها فهو عند الله مخذولٌ، ومن اقتَدى بها دون كتاب الله وسنَّةِ رسوله فهو عند الله غيرُ مقبول.
وهذا أعظم الحُجُب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.

- من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زِيدَ في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقصَ من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قُربه من الناس وقضاءِ حوائجهم والتواضع لهم.
وعلاماتُ الشقاوة: أنه كلما زيد في علمه زيد في كِبْره وتِيْهِه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنِّه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في مالِه زيد في بخله وإمساكِه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه.
وهذه الأمورُ ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يَبْتَلي بها عبادَه فيَسعَدُ بها أقوامٌ ويَشقى بها أقوامٌ. وكذلك الكراماتُ امتحانٌ وابتلاءٌ كالملك والسلطان والمال؛ قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: ٤٠].
فالنعم ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يظهر به شكر الشكور وكفر الكفور؛ كما أن المحن بلوى منه سبحانه؛ فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب.

- فصل
أركان الكفر أربعةٌ: الكبرُ، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقيادَ، والحسد يمنعه قبولَ النصيحة وبذلها، والغضبُ يمنعه العدلَ، والشهوة تمنعه التفرُّغَ للعبادة.
فإذا انهدم ركنُ الكبر سَهُلَ عليه الانقياد، وإذا انهدم ركنُ الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبرُ والعفافُ والعبادةُ.
وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بُلِي بها، ولا سيما إذا ارت هيئاتٍ راسخةً وملكاتٍ وصفاتٍ ثابتة؛ فإنه لا يستقيم له معها عملٌ البتة، ولا تزكو نفسه مع قيامها بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وكل الآفات متولدةٌ منها، وإذا استحكمت في القلب؛ أرتْه الباطلَ في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل، والمعروفَ في صورة المنكر والمنكرَ في صورة المعروف، وقَرَّبتْ منه الدنيا وبعَّدتْ منه الآخرةَ.
وإذا تأملتَ كفرَ الأمم رأيتَه ناشئًا منها، وعليها يقع العذابُ، وتكون خفتُهُ وشدته بحسب خفتها وشدتها؛ فمن فتحَها على نفسه فتَحَ عليه أَبوابَ الشرور كلها عاجلًا وآجلًا، ومن أغلقَها على نفسه أغلقَ عنه أبوابَ الشرور؛ فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه.
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربِّه وجهله بنفسه؛ فإنه لو عرفَ ربَّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسَه بالنقائص والآفات؛ لم يتكبْر ولم يغضبْ لها ولم يحسُدْ أحدًا على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوعٌ من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويُحِبّ زوالَها عنه والله يكره ذلك؛ فهو مضادٌّ لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوَّه حقيقةً؛ لأنَّ ذنبه كان عن كبر وحسد.
فقلْعُ هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضى به وعنه والإنابة إليه.
وقَلْع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تَستحقُّ أن يغضب لها وينتقم لها؛ فإن ذلك إيثارٌ لها بالرضى والغضب على خالقها وفاطرها. وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يُعوِّدها أن تَغضَب له سبحانه وترضى له؛ فكلما دخلها شيءٌ من الغضب والرضى له خرجَ منها مقابله من الغضب والرِّضى لها، وكذا بالعكس.
أما الشهوةُ فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتِها أعظمُ أسباب حرمانها إياها ومنعها منها، وحِمْيتها أعظم أسباب اتصالها إليها؛ فكلما فتحتَ عليها بابَ الشهوات كنتَ ساعيًا في حرمانها إياها، وكلما أغلقتَ عنها ذلك الباب كنتَ ساعيًا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه.
فالغضب مثل السَّبُع؛ إذا أفلتَه صاحبُه بدأ بأكله، والشهوة مثل النار، إذا أضرمها صاحبها بدأتْ بإحراقه، والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه؛ فإن لم يُهلِكْك طردَك عنه، والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك.
والذي يَغلِبُ شهوتَه وغضبَه يَفْرَقُ الشيطانُ من ظله، ومن تَغلِبه شهوتُه وغضبُه يَفرَقُ من خياله.

- قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: ١٢٤]؛ فذِكْره كلامه الذي أنزله على رسوله، والإعراض عنه ترك تدبره والعملِ به، والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير: أنها عذاب القبر. قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابنُ عباس ، وفيه حديث مرفوع ، وأصل الضنك في اللغة الضيق والشدة.

- المواساةُ للمؤمنين أنواعٌ: مواساةٌ بالمال، ومواساةٌ بالجاه، ومواساةٌ بالبدن والخدمة، ومواساةٌ بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساةٌ بالتوجع لهم.
وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة؛ فكلما ضَعُفَ الإيمان ضعفت المواساةُ، وكلما قوي قويتْ.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ النالس مواساةً لأصحابه بذلك كله؛ فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.

- إذا عزم العبدُ على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضَتْ له الخوادع والقواطع، فينخدع أولًا بالشهوات والرئاسات والملاذِّ والمناكح والملابس. فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتُلِي بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته ونحو ذلك. فإن وقف معه انقطعَ به عن الله وكان حظّه منه، وإن قطعهُ ولم يقفْ معه ابتُلِي بالكرامات والكشوفات. فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الموحدة والفراغ من الدنيا. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه وسار ناظرًا إلى مراد الله منه وما يحبه منه؛ بحيث يكون عبده الموقوف على محابِّه ومراضيه أين كانت وكيف كانت؛ تعبَ بها أو استراح تنعَّم أو تألم، أخرجتْه إلى الناس أو عزلتْه عنهم، لا يختار لنفسه غيرَ ما يختاره له وليُّه وسيدُه، واقفٌ مع أمره ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهونُ عليه أن يُقدِّم راحتَها ولذَّتها على مرضاة سيده وأمرِه؛ فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيءٌ البتة. وبالله التوفيق.

- ويُحكى أن أعرابيًّا دخل على الرشيد، فقال: أمير المؤمنين! ثبَّتَ الله عليك النعمَ التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقَّق لك النعمَ التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرَّفك النعمَ التي أنت فيها ولا تَعرِفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسنَ تقسيمَه!

- ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهلُ من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تَشغلَ نفسَك بالفكر فيما يَعنِيك دون ما لا يَعنِيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه... وإياك أن تُمكِّن الشيطانَ من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يُفسِدها عليك فسادًا يَصعُب تداركُه.

- • قال شقيق بن إبراهيم: أُغلِقَ بابُ التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.

- وليس على العبد أضرُّ من مَلَلِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يَسخَطها ويشكوها ويعدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه.

- • وقوله في الحديث: "إن الله جميل يُحِبُّ الجمال" يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء.
كما في الحديث الآخر: "إن الله نظيفٌ يحب النظافة" .

- فائدة
قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)} [الأنبياء: ٨٣]: جمع في هذا الدعاء بين: حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره.
ومتى وجدَ المبتلى هذا كُشِفتْ عنه بلواه.
وقد جُرِّبَ أنه من قالها سبع مراتٍ -ولا سيما مع هذه المعرفة- كشفَ الله ضرَّه

- العبد دائمًا متقلبٌ بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل؛ فهو محتاجٌ -بل مضطرٌّ- إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل؛ فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا، وإن قام بصُوَرها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقلَّ نصيبُه من اللطف في الباطن.
فإن قلت: وما اللطف الباطن؟
فهو ما يحصُلُ للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيَستخذِي بين يدي سيده ذليلًا له مستكينًا ناظرًا إليه بقلبه ساكنًا إليه بروحه وسِرِّه، وقد شَغَله مشاهدةُ لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيَّبه عن شهود ذلك معرفتُه بحسن اختياره له وأنه عبدٌ محضٌ يُجرِي عليه سيدُه أحكامَه رضي أو سخط؛ فإن رضي نال الرضى، وإن سخط فحظُّه السخط.
فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة؛ يزيد بزيادتها، وينقص بنقصانها.

- أنفع الناس لك رجل مكَّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تَصنع إليه معروفًا؛ فإنه نِعمَ العونُ لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.
وأضر الناس عليك من مكَّن نفسَه منك حتى تعصي الله فيه؛ فإنه عونٌ لك على مضرتك ونقصك.


- • لا تركَنْ إلى شيءٍ دوننا؛ فإنه وبالٌ عليك وقاتلٌ لك: إن ركنتَ إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى المعرفة نكَّرناها عليك، وإن ركنتَ إلى الوجد استدرجناك فيه، وإن ركنتَ إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنتَ إلى المخلوقين وكَلْناك إليهم، ارْضَنا لك ربًّا نرضاك لنا عبدًا.

- الشهقةُ التي تَعرِض عند سماع القرآن أو غيره لها أسبابٌ:
أحدُها: أن يَلُوح له عند السماع درجةٌ ليست له، فيرتاح إليها، فتَحدُث له الشهقةُ؛ فهذه شهقة شوق.
وثانيها: أن يَلُوح له ذنبٌ ارتكبه، فيشهَق خوفًا وحزنًا على نفسه، وهذه شهقة خشية.
وثالثها: أن يلوح له نقصٌ فيه لا يَقدِرُ على دفعه عنه، فيُحدِث له ذلك حزنًا، فيشهَق شهقة حزن.
ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودةً عنه، فيُحدِث ذلك شهقَة أسفٍ وحزنٍ.
وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبُهُ، واشتغل بغيره، فذكَّره السماعُ محبوبَه، فلاح له جماله، ورأى الباب مفتوحًا والطريق ظاهرةً، فشهق فرحًا وسرورًا بما لاح له.
وبكل حالٍ فسبب الشهقة قوةُ الوارد وضعف المحل عن الاحتمال، والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلًا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم؛ فإنه إذا أظهره ضعُفَ أثره وأوشك انقطاعه.
هذا حكم الشهقة من الصادق؛ فإن الشاهق إما صادقٌ وإما سارقٌ وإما منافقٌ.

الخميس، 25 مايو 2023

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 1

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 1


- وقد ذكرنا ما تضمَّنت هذه الآية من الأسرار والعبر في كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية.

- وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم"، وبيَّنَّا بعضَ ما فيها من الأسرار والعِبَر.

قال المحقق: يقصد إعلام الموقعين.

- (ونحن أقرب إليه) وقال شيخُنا : المرادُ بقوله: {نَحْنُ}؛ أي: ملائكتُنا؛ كما قال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) } [القيامة: ١٨]؛ أي: إذا قرأه عليك رسولُنا جبريلُ. قال: ويدلُّ عليه قولُه: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: ١٧]؛ فقُيِّدَ القربُ المذكورُ بتلقِّي المَلَكَيْنِ، ولو كان المرادُ به قربَ الذاتِ لم يَتَقَيَّدْ بوقتِ تلقِّي الملكين.

- الثالثة : أنه مَنَّاعٌ للخير، وهذا يَعُمُّ منعَهُ للخيرِ الذي هو إحسانٌ إلى نفسِهِ من الطاعاتِ والقُرَبِ إلى الله، والخير الذي هو إحسانٌ إلى الناس؛ فليس فيه خيرٌ لنفسِهِ ولا لبنَي جنسِهِ؛ كما هو حالُ أكثرِ الخَلْقِ.

- وقد استوفَينا الكلام في هذا في كتابنا الكبير في القضاءِ والقدر.

- ولما كان الحُزْنُ والهمُّ والغمُّ يُضادُّ حياة القلبِ واستنارتَهُ؛ سألَ أن يكون ذَهابُها بالقرآن؛ فإنَّها أحرى أن لا تعود، وأما إذا ذَهبتْ بغير القرآن من صحةٍ أو دنيا أو جاهٍ أو زوجةٍ أو ولدٍ؛ فإنَّها تعودُ بذهاب ذلك. والمكروه الواردُ على القلب: إن كان من أمرٍ ماضٍ؛ أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل؛ أحدث الهمَّ، وإن كان من أمرٍ حاضرٍ؛ أحدث الغَمَّ. والله أعلم.

- • لمَّا طلب آدمُ الخلود في الجنة من جانب الشجرة؛ عُوقِب بالخُروج منها، ولما طلب يوسفُ الخروج من السجن من جهة صاحب الرُّؤيا؛ لبث فيه بضع سنين.

- • قلةُ التوفيق، وفسادُ الرأي، وخفاءُ الحقِّ، وفسادُ القلبِ، وخُمولُ الذِّكْر، وإضاعةُ الوقت، ونفرةُ الخلق، والوحشةُ بين العبد وبين ربِّه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحقُ البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم،، ولباس الذُّلِّ، وإدالةُ العدوِّ، وضيقُ الصدر، والابتلاءُ بقُرَناءِ السَّوءِ الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهمِّ والغمِّ، وضنْكُ المعيشة، وكسفُ البال: تتولَّدُ من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولَّدُ الزرعُ عن الماء والإحراقُ عن النار. وأضدادُ هذه تتولَّدُ عن الطاعة.

- • سبَقَ العلمُ بنبوَّةِ موسى وإيمانِ آسية، فَسِيقَ تابوتُهُ إلى بيتها، فجاء طفلٌ منفردٌ عن أمٍّ، إلى امرأةٍ خاليةٍ عن ولدٍ! فللهِ كم في هذه القصة من عبرةٍ! كم ذَبَحَ فرعونُ في طلب موسى من ولدٍ، ولسانُ القَدَرِ يقولُ: لا نُربِّيهِ إلّا في حِجْرِكَ!!

- • القواطعُ مِحَنٌ يتبيَّنُ بها الصادقُ من الكاذبِ؛ فإذا خُضْتَها انقلبتْ أعوانًا لك توصِلُك إلى المقصودِ.

- من أعجبِ الأشياءِ: أن تعرِفَه ثم لا تحبَّهُ، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخَّر عن الإجابة، وأن تعرفَ قدرَ الربح في معاملتِهِ ثم تعامل غيرَهُ، وأن تعرف قدْر غضبهِ ثم تتعرَّض له، وأن تذوقَ ألمَ الوَحْشةِ في معصيتِهِ ثم لا تَطْلُبَ الأنسَ بَطاعتِهِ، وأن تذوقَ عُصْرةَ القلبِ عند الخوْض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصَّدْرِ بذِكْرِهِ ومناجاتِهِ، وأن تذوقَ العذابَ عند تعلُّق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه!! وأعجبُ من هذا علمُك أنَّك لا بدَّ لك منهُ وأنَّك أحوجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرِضٌ وفيما يُبعِدُك عنه راغبٌ!!

- • إذا خَرَجَتْ مِن فِي عَدُوِّكَ لفظةُ سَفَهٍ فلا تُلْحِقْها بمِثْلِها؛ تُلَقِّحْها، ونَسْلُ الخصام نَسْلٌ مذمومٌ.

- • أوْثِقْ غضبَكَ بسلسلة الحِلْم؛ فإنَّه كلبٌ؛ إنْ أَفْلَتَ أَتلفَ.

- • لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسُّنَةِ والمحاكمةِ إليهما، واعتقدوا عدمَ الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراءِ والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ؛ عرضَ لهم من ذلك فسادٌ في فِطَرِهم، وظلمةٌ في قلوبِهِم، وكدَرٌ في أفهامِهِم، ومَحْقٌ في عقولِهِم، وعَمَّتْهم هذه الأمورُ وغلبتْ عليهم؛ حتى رُبِّيَ فيها الصغيرُ، وهَرِمَ عليها الكبيرُ، فلم يَرَوْها منكرًا!

فجاءتهمْ دولةٌ أخرى قامتْ فيها البدَعُ مقامَ السُّنَنِ، والنفسُ مقامَ العقل، والهوى مقام الرُّشدِ، والضلالُ مقام الهدى، والمنكرُ مقامَ المعروفِ، والجهلُ مقام العلم، والرِّياءُ مقامَ الإخلاصِ، والباطلُ مقام الحقِّ، والكذِبُ مقامَ الصِّدْقِ، والمداهنةُ مقام النصيحة، والظلمُ مقام العدل؛ فصارت الدولةُ والغلبَةُ لهذه الأمور، وأهلُها هم المشارَ إليهم، وكانتْ قبل ذلك لأضدادها، وكان أهلُها هم المشارَ إليهم.

• فإذا رأيتَ دولةَ هذه الأمور قد أقبلتْ، وراياتُها قد نُصِبَتْ، وجيوشُها قد رَكِبَتْ؛ فبطنُ الأرض والله خيرٌ من ظهرها، وقُلَلُ الجبال خيرٌ من السهول، ومخالطةُ الوحشِ أسلمُ من مخالطةِ الناس.

اقشعرَّتِ الأرضُ وأظلمتِ السماءُ وظهر الفسادُ في البرِّ والبحر من ظلم الفَجَرَةِ، وذهبتِ البركاتُ وقلَّتِ الخيراتُ وهزُلتِ الوحوشُ وتكدَّرتِ الحياةُ من فسق الظَّلَمَةِ، وبكى ضوءُ النهارِ وظلمةُ الليل من الأعمال الخبيثةِ والأفعال الفظيعةِ، وشكا الكرامُ الكاتبون والمُعَقِّباتُ إلى ربِّهم من كثرةِ الفواحش وغلبةِ المنكرات والقبائحِ. وهذا والله مُنذِرٌ بسَيلِ عذابٍ قد انعقد غمامُهُ، ومُؤذِنٌ بليل بلاءٍ قد ادْلهَمَّ ظلامُهُ؛ فاعزِلوا عن طريق هذا السَّيل بتوبةٍ نَصوح ما دامتِ التوبةُ ممكنةً وبابُها مفتوحٌ! وكأنَّكم بالباب وقد أُغْلِقَ، وبالرهنِ وقد غَلِقَ (١)، وبالجَناح وقد عَلِقَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)} [الشعراء: ٢٢٧].


- قاعدة

ليس في الوجود الممكن سببٌ واحدٌ مستقلٌّ بالتأثير، بل لا يُؤثِّرُ سببٌ البتةَ إلا بانضمامِ سببٍ آخر إليه وانتفاءِ مانع يمنعُ تأثيرهُ. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنويَّةِ؛ كتأثير الشمس في الحيوان والنباتِ؛ فإنَّه موقوفٌ على أسباب أخر من وجود محلٍّ قابل وأسبابٍ أخَرَ تنضمُّ إلى ذلك السبب، وكذلك حصولُ الولد موقوفٌ على عدةِ أسَبابٍ غيرِ وطءِ الفَحْل، وكذلك جميعُ الأسباب مع مسبَّباتها. فكل ما يُخافُ ويُرْجَى من المخلوقاتِ؛ فأعلى غاياتِهِ أن كون جزءَ سببٍ غيرَ مستقلٍّ بالتأثيرِ.

ولا يَستقلُّ بالتأثيرِ وحدَه دون توقُّفِ تأثيرِهِ على غيرِهِ إلَّا اللهُ الواحدُ القَهَّارُ؛ فلا ينبغي أن يُرْجى ولا يُخافَ غيرُهُ.

وهذا برهانٌ قطعيٌّ على أنَّ تعلُّق الرجاء والخوف بغيره باطلٌ؛ فإنَّه لو فُرض أنَّ ذلك سببٌ مستقلٌّ وحدَه بالتأثير لكانتْ سببيَّتُهُ من غيرِهِ لا منه، فليس لهُ من نفسِهِ قوةٌ يَفْعَلُ بها؛ فإنَّه لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله؛ فهو الذي بيدِهِ الحَوْلُ كلُّه والقوةُ كلُّها؛ فالحولُ والقوةُ التي يُرْجى لأجلِهِما المخلوقُ ويُخافُ إنَّما هما لله وبيدِهِ في الحقيقة؛ فكيف يُخافُ ويُرْجى من لا حولَ له ولا قوة؟!

بل خوفُ المخلوقِ ورجاؤُهُ أحدُ أسبابِ الحرمانِ .


- • ما في هذه الدار موْضِعُ خَلْوَةٍ؛ فاتَّخِذْهُ في نفسِكَ.

- ماذا يملِكُ مِنْ أمرهِ مَن ناصِيَتُه بيد الله، ونفسُهُ بيدِهِ، وقلبُهُ بين إصبعين من أصابعِهِ يقلِّبُهُ كيف يشاء، وحياتُهُ بيدِهِ، وموتُهُ بيدِهِ، وسعادتُهُ بيدِهِ، وَشقاوتُهُ بيدِهِ، وحركاتُهُ وسكناتُهُ وأقوالُهُ وأفعالُهُ بإذنِهِ ومشيئتِهِ؛ فلا يتحرَّكُ إلا بإذنِهِ، ولا يفعلُ إلَّا بمشيئتِهِ. إنْ وَكَلَهُ إلى نفسه وكَلَه إلى عجزٍ وضيعةٍ وتفريطٍ وذنب وخطيئةٍ، وإن وكَلَه إلى غيره وكلَهُ إلى منْ لا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، وإن تخلَّى عنه استولى عليه عدوُّهُ، وجعلَهُ أسيرًا له. فهو لا غِنى له عنه طَرْفَةَ عينٍ، بل هو مضطرٌّ إليه على مدى الأنفاسِ في كلِّ ذرَّةٍ من ذَرَّاتِهِ باطنًا وظاهرًا، فاقتُهُ تامَّةٌ إليه. ومع ذلك فهو متخلِّفٌ عنه، مُعْرِضٌ عنه، يتبغَّضُ إليه بمعصيتِهِ، مع شدَّة الضرورة إليه من كلِّ وجهٍ، قد صار لِذِكْرِهِ نَسِيًّا، واتَّخذه وراءَهُ ظِهْرِيًّا. هذا؛ وإليه مرجعُهُ، وبين يديهِ موقفُهُ؟!

- • أصولُ الخطايا كلِّها ثلاثةٌ: الكبْرُ: وهو الذي أصار إبليسَ إلى ما أصارهُ، والحِرْصُ: وهو الذي أخرج آدم من الجنَّة، والحسدُ: وهو الذي جَرَّأ أحدَ ابنَي آدمَ على أخيهِ؛ فمنْ وُقِي شَرَّ هذه الثلاثة فقد وُقِيَ الشَّرَّ؛ فالكفرُ من الكِبر، والمعاصي من الحِرْص، والبَغْيُ والظُّلْمُ من الحسد.

- جمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَبِ"  بين مصالح الدُّنيا والآخرةِ.

فنعيمُها ولَذَّتُها إنما يُنال بتقوى الله.

وراحةُ القلب والبدنِ وتركُ الاهتمامِ والحِرْصِ الشَّديدِ والتَّعَب والعَناءِ والكدِّ والشَّقاءِ في طلبِ الدُّنيا إنَّما يُنالُ بالإجمال في الطَّلَبِ.

فمنِ اتَّقى الله فازَ بلذَّةِ الآخرة ونعيمِها، ومن أجْمَلَ في الطَّلَب استراحَ من نَكَدِ الدُّنيا وهمومها. فالله المستعانُ.

قدْ نادتِ الدُّنيا على نَفْسِها ... لَوْ كان في ذا الخَلْقِ مَنْ يَسْمَعُ

كَمْ واثِقٍ بالعيشِ أهْلَكْتُهُ ... وجامِعٍ فَرَّقْتُ ما يَجْمَعُ 


- • لا بُدَّ من نفوذ القدر؛ فاجنَحْ للسلْم.

- كانت تحفةُ {ثَانِيَ اثْنَينِ} [التوبة: ٤٠] مُدَّخرةً للصديق دونَ الجميع؛ فهو الثاني في الإسلام وفي بذل النفس وفي الزُّهد وفي الصُّحبة وفي الخلافة وفي العمر وفي سبب الموت؛ لأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مات عن أثر السُّمِّ ، وأبو بكر سُمَّ فمات  .

أسلمَ على يديه من العشرة عثمان وطلحة والزُّبير وعبدُ الرحمن بن عوف وسعدُ بن أبي وقَّاص.

- • سبحان الله! في النفس: كِبْرُ إبليسُ، وحسدُ قابيل، وعُتُوُّ عادٍ، وطغيانُ ثمودَ، وجرأةُ نمرود، واستطالةُ فرعون، وبَغْيُ قارون، وقِحَةُ هامان، وهَوَى بَلْعام، وحِيَلُ أصحابِ السبت، وتمرُّدُ الوليد، وجهل أبي جهل.

وفيها من أخلاق البهائم: حِرصُ الغُراب، وشَرَهُ الكلب، ورُعونة الطاووس، ودناءة الجُعَل، وعقوق الضبِّ، وحِقدُ الجمل، ووثوبُ الفهد، وصَولةُ الأسد، وفِسقُ الفأرة، وخُبثُ الحية، وعَبَثُ القرد، وجمعُ النملة، ومكر الثعلب، وخِفَّةُ الفَراش، ونوم الضَّبُع. غير أنَّ الرياضة والمجاهدة تُذْهِبُ ذلك.

- • أصولُ المعاصي كلِّها -كبارها وصغارها- ثلاثةٌ: تعلُّقُ القلبِ بغير الله، وطاعةُ القوة الغضبيَّة، والقوة الشهوانيَّةِ.

وهي: الشركُ، والظلمُ، والفواحشُ.

فغايةُ التعلُّق بغير الله: الشركُ وأن يُدْعى معه إلهٌ آخرُ، وغايةُ طاعة القوَّة الغضبيَّة: القتلُ، وغايةُ طاعة القوَّةِ الشهوانيَّة: الزِّنى.

ولهذا جمعَ الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: ٦٨].

وهذه الثلاثةُ يدعو بعضُها إلى بعضٍ.

- وإنْ كان السببُ مباحًا نظرتَ: هل يُضْعِفُ قيامُك به التوكُّلَ أو لا يُضعِفُه؟ فإن أضعفَه وفرَّقَ عليك قلبَك وشتَّتَ همَّك فتركُهُ أوْلى. وإن لم يُضعِفْهُ فمباشرتُه أولى؛ لأنَّ حكمةَ أحكم الحاكمين اقتضَتْ ربط المسبَّب به؛ فلا تُعطِّلْ حكمتَه مهما أمكنك القيامُ بها، ولا سيَّما إذا فعلتَهُ عبوديَّةً، فتكون قد أتيتَ بعبوديَّةِ القلبِ بالتوكُّل، وعبوديَّةِ الجوارحِ بالسببِ المَنْويِّ به القُرْبَةُ.

- فعامةُ مصالح النفوس في مكروهاتها؛ كما أن عامةَ مَضارِّها وأسباب هَلَكَتِها في محبوباتها.

- فإيثارُ الدُّنيا على الآخرة: إما من فسادٍ في الإيمان، وإما من فسادٍ في العقل، وما أكثرَ ما يكون منهما.

- ويكفي في الزُّهد في الدُّنيا:

قوله تعالى: {أَفَرَأَيتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)} [الشعراء: ٢٠٥ - ٢٠٧].

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَينَهُمْ} [يونس: ٤٥].

وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)} [الأحقاف: ٣٥].

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)} [النازعات: ٤٢ - ٤٦].

وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيرَ سَاعَةٍ} [الروم: ٥٥].

وقوله: {قَال كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣) قَال إِنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)} [المؤمنون: ١١٢ - ١١٤].

وقوله: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَينَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إلا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إلا يَوْمًا (١٠٤)} [طه: ١٠٢ - ١٠٤].

والله المستعان وعليه التكلان.

- فصل

من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحةٍ أو فرارٍ من سقم، وعلمَ أنَّ الله على كل شيء قديرٌ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأنَّ تدبيره لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرُّ به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخَّر عن تدبيره له خطوةً واحدةً؛ فلا متقدمَ له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر؛ فألقى نفسه بين يديه، وسلَّم الأمرَ كلَّه إليه، وانطرحَ بين يديه انطراحَ عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرفُ فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحملَ كَلَّه وحوائجَه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا تُثقِله ولا يَكترِثُ بها، فتولَّاها دونه، وأراه لطفَه وبِرَّهُ ورحمته وإحسانه فيها؛ من غير تعب من العبد ولا نَصَبٍ ولا اهتمام منه؛ لأنَّه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها؛ فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ قلبَه وأعظمَ سرورَه وفرحَه!.


الجمعة، 12 مايو 2023

مختارات من : جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - لابن القيم رحمه الله تعالى

مختارات من : جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - لابن القيم رحمه الله تعالى


وهو كتاب فرد في معناه، لم نُسْبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها. بيَّنَّا فيه الأحاديث الواردة في  الصَّلاة والسَّلام عليه - صلى الله عليه وسلم -، وصحيحها من حسنها ومعلولها وبَيَّنَّا ما في معلولها من العلل بيانًا شافيًا، ثمَّ أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثمَّ في مواطن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - ومحالها، ثمَّ الكلام في مقدار الواجب منها، واختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح وتزْييف المزيَّف، ومَخْبَر الكتاب فوق وَصْفه، والحمد لله ربِّ العالمين .


ولهذا كان القول الصحيح، وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله: أن الصَّدَقة تَحْرُم عليهِنَّ.


خديجة رضي الله عنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين في الأصح.


ألف المصنف كتاب الروح قبل هذا.


 فالصدق أن لا ينقسم طلبك، والإخلاص أن لا ينقسم مطلوبك، الأول: توحيد الطلب، والثاني: توحيد المطلوب.


وأكثر ما يأتي فعيلًا في أسمائه تعالى بمعنى فاعل؛ كسميع، وبصير، وعليم، وقدير، وعليٍّ، وحكيم، وحليم، وهو كثير. وكذلك فعول؛ كغفور، وشكور، وصبور.


ومثال ما يترجح فيه أحد الألفاظ حديث الاستخارة، فإن الراوي شك هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

٣٢٤ - "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري"، أو قال: "وعاجل أمري وآجله"، بدل: "وعاقبة أمري"، والصحيح اللفظ الأول، وهو قوله: "وعاقبة أمري" لأن عاجل الأمر وآجله هو مضمون قوله: "ديني ومعاشي، وعاقبة أمري" فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر وآجله تكرارًا، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة، فإنه لا تكرار فيه؛ فإن المعاش هو عاجل الأمر، والعاقبة آجله.



٣٢٥ - ومن ذلك ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن قَرَأَ عَشْر آياتٍ مِنْ أوَّلِ سُوْرَة الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتنة الدَّجَّال"، رواه مسلم . واختلف فيه، فقال بعض الرواة : "من أول سورة الكهف"، وقال بعضهم: "من آخرها"؛ وكلاهما في الصحيح"، لكن الترجيح لمن قال: "من أول سورة الكهف" لأن في "صحيح مسلم" من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان في قصة الدجال:

٣٢٦ - "فَإذَا رأيْتُمُوه فَاقْرَأوا عَلَيْه فَوَاتِحَ سُوْرَة الكَهْفِ" ولم يُخْتلف في ذلك، وهذا يدل على أنَ مَنْ روى العشر من أوِّل السورة حفظ الحديث، ومن روى من آخرها لم يحفظه.


أن حديث المسيء هذا قد جعله المتأخرون مستندًا لهم في نفي كل ما ينفون وجوبه، وحمَّلُوه فوق طاقته، وبالغوا في نفي ما اختلف في وجوبه به . فمن نفى وجوب الفاتحة احتجَّ به، ومن نفى وجوب التشهد احتجَّ به، ومن نفى وجوب التسليم احتج به، ومن نفى وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - احتج به، ومن نفى وجوب أذكار الركوع، والسجود، وركني الاعتدال احتج به، ومن نفى وجوب تكبيرات الانتقال احتج به. وكل هذا تساهل واسْتِرْسَال في الاستدلال، وإلا فعند التحقيق لا ينفي وجوب شيء من ذلك، بل غايته أن يكون قد سكت عن وجوبه ونفيه، فإيجابه بالأدلة الموجبة له لا يكون معارضًا به.


مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة  (وأما وجوبها فلم نرَ فيه دليلًا يجب المصير إليه و إلى مثله. والله أعلم).


وادعى ابن جرير فيه الإجماع. وهذا على أصله، فإنه إذا رأى الأكثرين على قول، جعله إجماعًا يجب اتباعه.


العشرون: أنها لسب لتذكر العبد ما نَسِيَه.


الثانية والعشرون: أنها سبب لنفي الفقر.


الحادية والثلاثون: أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره، وأسباب مصالحه، لأن المصلي داعٍ ربه أن يبارك عليه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه.


وهو أنواع:

- ذكْرُه بأسمائه، وصفاته، والثناء عليه بها .

- الثاني: تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذِّكر عند المتأخرين .

- الثالث: ذِكْرُه بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذِكْرُ أهل العلم، بل الأنواع الثلاثة هي ذِكْرُهم لربِّهم.

- ومن أفضل ذِكْرِهِ ذِكْرُهُ بكلامه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤)} [طه: ١٢٤]، فذِكْرُهُ هنا: كلامُه الذي أنْزله على رسوله، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)} [الرعد: ٢٨].

- ومن ذِكْره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتَضرُّع إليه.

فهذه خمسة أنواع من الذِّكْر.

الخميس، 24 فبراير 2022

متن الرحبية منقول

 

المقدمة

أَوَّلُ مَا نَسْتَفْتِحُ الْمَقَالا  بِذِكْرِ حَمْدِ رَبِّنا تَعالى

فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ما أَنْعَمَا  حَمْداً بِهِ يَجْلو عَنِ القَلْبِ العَمى

ثُمَّ الصَّلاةُ بَعْدُ والسَّلامُ  عَلى نَبِيٍّ دينُهُ الإِسْلامُ

مُحَمَّدٌ خَاتَمِ رُسْلِ رَبِّهْ  وَآلِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَصَحْبِهْ

ونَسأَلُ اللهَ لَنا الإِعانَهْ  فِيما تَوخَّيْنا مِنَ الإِبانَهْ

عَن مَذْهَبِ الإِمامِ زَيْدِ الفَرَضِي  إِذْ كانَ ذاكَ مِنْ أهمِّ الغَرَضِ

عِلْماً بِأَنَّ العِلْمَ خَيْرُ ما سُعِي  فيهِ وَأَوْلَى مالَهُ العَبْدُ دُعِي

وَأَنَّ هَذا العِلْمَ مَخْصوصٌ بِما  قَدْ شاعَ فيهِ عِندَ كُلِّ العُلَما

بأَنَّهُ أوَّلُ عِلْمٍ يُفْقَدُ  فِي الأرْضِ حَتى لا يَكادُ يُوجَدُ

وأنَّ زَيْداً خُصَّ لا مَحالَهْ  بَما حَباهُ خاتَمُ الرِّسالَهْ

مِنْ قَوْلِهِ فِي فَضْلِهِ مُنَبِّها  "أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ" وَنَاهِيكَ بِها

فَكانَ أَوْلى باتِّباعِ التَّابِعي  لا سِيَّما وَقدْ نَحَاهُ الشَّافِعِي

فَهاكَ فيهِ القَوْلَ عَنْ إِيجازِ  مُبَرَّءاً عَنْ وَصْمَةِ الأَلْغازِ

باب أسباب الميراث

أَسْبابُ مِيراثِ الْوَرى ثَلاثَهْ  كُلٌّ يُفِيدُ رَبَّهُ الوِراثَهْ

وَهْيَ: نِكاحٌ، وَولاءٌ ، وَنَسَبْ  مَا بَعْدَهُنَّ لِلمَوارِيثِ سَبَبْ

باب موانع الإرث

وَيَمْنَعُ الشَّخْصَ مِنَ الْمِيراثِ   وَاحِدةٌ مِنْ عِلَلٍ ثَلاثِ

رِقٌّ، وَقتْلٌ، واخْتِلافُ دِينِ   فَافْهَمْ ؛ فَلَيْسَ الشَّكُّ كَاليَقِينِ

باب الوارثين من الرجال

والوارِثونَ مِنْ الرِّجالِ عَشَرَةْ   أَسْماؤُهُمْ مَعْروفَةٌ مُشْتَهِرَهْ

الابْنُ وابْنُ الابنِ مَهمَا نَزَلا   والأَبُ والْجَدُّ لَهُ وإِنْ عَلا

والأخُ مِنْ أَيِّ الْجِهاتِ كَانَا   قَدْ أَنْزَلَ اللهُ بِهِ القُرآنَا

وابنُ الأَخِ الْمُدْلِي إِلَيهِ بِالأبِ   فَاسْمَعْ مَقالاً لَيْسَ بِالْمُكذَّبِ

والعمُّ وابنُ العَمِّ مِنْ أَبيهِ  فاشْكُرْ لِذي الإِيجازِ والتَّنْبيهِ

والزَّوْجُ والْمُعتِقُ ذُو الوَلاءِ   فُجُمْلَةُ الذُّكورِ هَؤلاءِ

باب الوارثات من النساء

وَالوارِثاتُ مِنْ النِّساءِ سَبْعُ   لَمْ يُعطِ أُنْثَى غَيْرَهُنَّ الشَّرعُ

بِنْتٌ وبِنْتُ ابنٍ وأُمٌّ مُشْفِقَهْ   وَزوْجَةٌ وَجَدَّةٌ ومُعتِقَهْ

والأُخْتُ مِنْ أيِّ الْجِهاتِ كانَتْ  فَهذِهِ عِدَّتُهُنَّ بانَتْ

باب الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى

وَاعْلَمْ بأنَّ الإِرْثَ نوْعانِ هُما  فرْضٌ وتعْصِيبٌ على ما قُسِما

فالفَرْضُ في نَصِّ الكِتابِ سِتَّه   لا فرْضَ في الإرْثِ سِواها البَتَّه

نِصْفٌ ورُبْعٌ ثُمَّ نِصفُ الرُّبْعِ   والثُّلْثُ والسُّدْسُ بِنَصِّ الشَّرعِ

والثُّلُثانِ وهُمَا التَّمامُ   فاحْفَظْ فكُلُّ حافظٍ إِمامُ

باب النصف

والنِّصْفُ فرْضُ خمْسَةٍ أَفْرادِ   الزَّوجُ والأُنثى مِنَ الأوْلَادِ

وبِنْتُ الابنِ عندَ فقْدِ البِنْتِ   والأُخْتُ في مَذْهَبِ كُلِّ مُفْتِ

وبَعْدَها الأُخْتُ التي مِن الأَبِ   عِنْدَ انْفِرادِهِنَّ عنْ مُعَصِّبِ

باب الربع

والرُّبْعُ فَرْضُ الزَّوْجِ إنْ كان مَعَهْ   مِنْ وَلَدِ الزوجةِ مَنْ قَدْ مَنَعَهْ

وهْوَ لِكُلِّ زوْجَةٍ أوْ أكْثَرَا   معْ عَدَمِ الأوْلادِ فيما قُدِّرَا

وذِكْرُ أوْلادِ البَنينِ يُعتَمَدْ   حَيْثُ اعْتَمَدْنا الْقَوْلَ في ذِكْرِ الوَلَدْ

باب الثمن

والثُّمْنُ لِلزَّوْجَةِ والزَّوْجاتِ   معَ البَنينَ أوْ معَ البَناتِ

أوْ مَعَ أوْلادِ البَنينَ فاعْلَمِ   ولا تَظُنَّ الجَمْعَ شَرْطاً فافْهَمِ

باب الثلثين

والثُّلُثانِ للبَناتِ جَمْعَا   ما زَادَ عَنْ واحِدةٍ فَسَمْعَا

وهْوَ كذاكَ لبناتِ الابْنِ   فافْهَمْ مَقالِي فَهْمَ صَافِي الذِّهْنِ

وهْوَ للأُخْتَينِ فَما يَزيدُ   قَضَى بهِ الأحْرارُ والعَبيدُ

هذا إذا كُنَّ لأمٍّ وأَبِ   أوْ لأَبٍ فاعْمَلْْ بِهذَا تُصِبِ

باب الثلث

والثُّلْثُ فرْضُ الأُمِّ حيْثُ لا وَلَدْ   ولا مِنَ الإِخْوَةِ جَمْعٌ ذُو عَدَدْ

كاثْنَيْنِ أوْ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثِ   حُكْمُ الذُّكُورِ فيهِ كالإِناثِ

ولا ابْنُ إبنٍ مَعَها أو بِنْتُهُ    ففَرْضُها الثُّلْثُ كما بيَّنْتُهُ

وإنْ يكُنْ زوجٌ وأمٌ وأبُ   فثُلُثُ الباقى لَها مُرَتَّبُ

وهكَذا معْ زوْجَةٍ فصَاعِدا   فلا تَكُنْ عَنِ العُلومِ قاعِدا

وهُوَ لاثْنَيْنِ أو اثْنَتَيْنِ    مِنْ وَلَدِ الأُمِّ بِغَيْرِ مَيْنِ

وهَكذا إنْ كَثُرُوا أوْ زَادُوا    فَما لَهُمْ فِيما سِواهُ زادُ

ويَسْتَوِي الإِناثُ و الذُّكُورُ    فِيهِ كَما أوْضَحَه الْمَسْطُورُ

باب السدس

والسُّدْسُ فَرْضُ سَبْعَةٍ مِنَ العَدَدْ    أبٍ وَأمٍّ ثُمَّ بِنْتِ ابنٍ وَجَدْ

والأُخْتِ بنتِ الأبِن ثُمَّ الجَدَّهْ     وَوَلدُ الأُمِّ تَمامُ العِدَّهْ

فالأَبُ يَسْتَحِقُّهُ مع الوَلَدْ    وهَكَذا الأُمُّ بِتَنْزِيلِ الصَّمَدْ

وهكذا مَعْ وَلَدِ الابْنِ الَّذِي    ما زالَ يَقْفُو إِثْرَهُ وَيَحْتَذِي

وَهوَ لَها أيْضاً معَ الاثْنَيْنِ    مِنْ إِخْوَةِ الْمَيْتِ فَقِسْ هَذَيْنِ

والجَدُّ مِثْلُ الأبِ عنْدَ فَقْدِهِ   فِي حَوْزِ ما يُصِيبُهُ ومَدِّهِ

إلا إذا كانَ هُناكَ إِخْوَهْ    لِكَوْنِهِمْ فِي القُرْبِ وهْوَ أُسْوَهْ

أوْ أَبَوَانِ مَعْهُما زوْجٌ وَرِثْ    فالأُمُّ لِلثُّلْثِ مَعَ الجَدِّ تَرِثْ

وهكَذا لَيْسَ شَبِيهاً بالأَبِ    في زوجَةِ الْمَيْتِ وأُمٍّ وَأَبِ

وحُكْمُهُ وحُكْمُهُمْ سَيَأْتِي    مُكَمَّلَ البَيَانِ فِي الحَالاتِ

وبِنْتُ الابْنِ تأْخُذُ السُّدْسَ إذا    كانَتْ مَعَ البِنْتِ مِثالاً يُحْتَذَى

وهكَذا الأخْتُ معَ الأُخْتِ الَّتي    بالأَبَوَيْنِ يا أُخَيَّ أَدْلَتِ

والسُّدْسُ فَرْضُ جَدَّةٍ في النَّسَبِ     واحدةً كانَتْ لأُمٍّ أوْ لأبِ

ووَلَدُ الأمِّ يَنالُ السُّدْسَا     والشَّرْطُ فِي إفْرادِهِ لا يُنْسَى

وإِنْ تَسَاوى نَسَبُ الجَدَّاتِ    وكنَّ كُلُّهُنَّ وَارِثاَتِ

فالسُّدْسُ بيْنَهُنَّ بالسَّوِيَّهْ     في القِسْمَةِ العادِلَةِ الشَّرْعِيَّهْ

وإنْ تكُنْ قُرْبَى لأُمٍّ حَجَبَتْ    أُمَّ أبٍ بُعْدَى وَسُدْساً سَلَبَتْ

وإنْ تَكُنْ بِالعَكْسِ فالْقَوْلانِ    فِي كُتْبِ أهْلِ العِلْمِ مَنْصوصَانِ

لا تَسْقُطُ البُعْدَى عَلَى الصَّحيحِ    واتَّفَقَ الْجُلُّ عَلَى التَّصْحيحِ

وكلُّ مَنْ أَدْلَتْ بِغَيْرِ وَارِثِ     فَما لَها حَظٌّ مِنَ الْمَوارِثِ

وتَسْقُطُ البُعْدَى بِذاتِ القُرْبِ      فِي الْمَذْهَبِ الأَوْلَى فَقُلْ لِي حَسْبِي

وقدْ تَنَاهَتْ قِسْمَةُ الفُروضِ     مِنْ غِيْرِ إِشْكالٍ وَلا غُمُوضِ

باب التعصيب

وَحُقَّ أنْ نَشْرَعَ فِي التَّعْصِيبِ     بِكُلِّ قَوْلٍ مُوجَزٍ مُصِيبِ

فَكُلُّ مَنْ أحْرَزَ كُلَّ الْمَالِ     مِنَ الْقَرَاباتِ أوِ الْمَوَالِي

أوْ كانَ ما يَفْضُلُ بَعْدَ الفَرْضِ لَهْ     فَهُوَ أَخُو العُصُوبَةِ الْمُفَضَّلَهْ

كالأَبِ والْجَدِّ وَجَدِّ الْجَدِّ     والابْنِ عِنْدَ قُرْبِهِ والْبُعْدِ

والأَخِ وَابْنِ الأَخِ والأَعْمَامِ    والسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ ذِي الإنْعامِ

وهَكَذا بَنُوهُمُ جَمِيعَا     فكُنْ لِما أَذْكُرُهُ سَمِيعَا

ومَا لِذِي البُعْدَى مَعَ القَرِيبِ     فِي الإرْثِ مِنْ حَظٍّ وَلا نَصِيبِ

والأخُ والعَمُّ لأُمٍّ وَأبِ     أَوْلى مِنَ الْمُدْلِي بِشَطْرِ النَّسَبِ

والابْنُ والأَخُ مَعَ الإِنَاثِ      يُعَصِّبَانِهِنَّ فِي الْمِيراثِ

والأَخَواتُ إنْ تَكُنْ بَنَاتُ     فَهُنَّ مَعْهُنَّ مُعَصَّبَاتُ

وَلَيْسَ فِي النِّساءِ طُرًّا عَصَبَهْ      إلا الَّتِي مَنَّتْ بِعِتْقِ الرَّقَبَهْ

باب الحجب

والْجَدُّ مَحْجُوبٌ عَنِ الْمِيراثِ     بالأبِ فِي أحْوالِهِ الثَّلاثِ

وتَسْقُطُ الْجَدَّاتُ مِنْ كلِّ جِهَهْ     بِالأُمِّ فَافْهَمْهُ وقِسْ ما أَشْبَهَهْ

وهكَذَا ابْنُ الإبْنِ بالإبْنِ فَلاَ      تَبْغِ عَنِ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ مَعْدِلَا

وتَسْقُطُ الإخْوَةُ بالبَنِينَا       وبِالأَبِ الأَدْنَى كما رُوِّيْنَا

أو بِبَنِي الْبَنِينَ كَيْفَ كَانُوا      سِيَّانِ فِيهِ الجَمْعُ والوُحْدَانُ

ويَفْضُلُ ابنُ الأُمِّ بالإِسْقاطِ      بالْجَدِّ فافْهَمْهُ عَلى احْتِياطِ

وبِالبَناتِ وبَنَاتِ الابْنِ      جَمْعاً وَوُحْدَاناً فَقُلْ لِي زِدْنِي

ثُمَّ بَناتُ الإبْنِ يَسْقُطْنَ مَتَى    حَازَ الْبَناتُ الثُّلُثَيْنِ يَا فَتى

إلاَّ إِذا عَصَّبَهُنَّ الذَّكَرُ      مِنْ وَلَدِ الابْنِ عَلَى ما ذَكَرُوا

ومِثْلُهُنَّ الأَخَوَاتُ اللاتِي     يُدْلِينَ بِالْقُرْبِ مِنَ الجِهاتِ

إذا أخَذْنَ فَرْضَهُنَّ وَافِيَا      أسْقَطْنَ أوْلاَدَ الأَبِ الْبَوَاكِيَا

وإنْ يَكُنْ أخٌ لَهُنَّ حَاضِرَا     عَصَّبهُنَّ باطِناً وظاهِرَا

وَلَيْسَ ابنُ الأخِ بِالْمُعَصِّبِ     مَنْ مِثْلُهُ أوْ فَوْقَهُ فِي النَّسَبِ

باب المشتركة

وإنْ تَجِدْ زَوْجاً وأُمًّا وَرِثَا   وإِخْوَةً للأُمِّ حَازُوا الثُّلُثَا

وإِخْوَةً أيضاً لأُمٍّ وأَبِ    واسْتَغْرَقوا المالَ بفَرْضِ النُّصُبِ

فاجْعَلْهُمُ كُلَّهُمُ لأُمِّ    واجْعَلْ أَباهُمْ حَجَراً فِي الْيَمِّ

واقْسِمْ عَلَى الإِخْوَةِ ثُلْثَ التَّرِكَهْ    فَهَذِهِ الْمَسْأَلةُ الْمُشْتَرِكَهْ

باب الجد والإخوة

ونَبْتَدِي الآنَ بِما أَرَدْنَا    فِي الجَدِّ والإِخْوةِ إذْ وَعَدْنَا

فألْقِ نحْوَ ما أَقُولُ السَّمْعَا    واجْمَعْ حَوَاشِي الكَلِمَاتِ جَمْعَا

واعْلَمْ بأنَّ الْجَدَّ ذو أَحْوالِ    أُنْبِيكَ عَنْهُنَّ عَلَى التَّوَالِي

يُقاسِمُ الإخْوَةَ فِيهِنَّ إِذا      لَمْ يَعُدِ الْقَسْمُ عَلَيْهِ بالأَذَى

فتارةً يَأْخُذُ ثُلْثاً كامِلاً      إنْ كانَ بِالقِسْمَةِ عَنْهُ نَازِلًا

إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذو سِهَامِ    فاقْنَعْ بِإيضاحِي عَنِ اسْتِفْهامِ

وتَارَةً يَأْخُذُ ثُلْثَ الْبَاقِي    بَعْدَ ذَوِي الْفُرُوضِ والأَرْزاقِ

هَذا إذا مَا كانَتِ الْمُقَاسَمَهْ   تَنْقُصُهُ عَنْ ذَاكَ بِالْمُزَاحَمَهْ

وتَارَةً يَأْخُذُ سُدْسَ الْمَالِ   وَلَيْسَ عَنْهُ نَازِلاً بِحالِ

وهْوَ مَعَ الإِناثِ عِنْدَ القَسْمِ    مِثْلُ أَخٍ فِي سَهْمِهِ والْحُكْمِ

إلا مَعَ الأُمِّ فَلاَ يَحْجُبُهَا    بَلْ ثُلُثُ الْمَالِ لَهَا يَصْحَبُهَا

واحْسُبْ بَنِي الأبِ لَدَى الأعْدَادِ     وارفُضْ بَنِي الأُمِّ مع الأَجْدادِ

واحْكُمْ عَلَى الإِخْوَةِ بَعْدَ العَدِّ      حُكْمَكَ فِيهِم عِنْدَ فَقْدِ الْجَدِّ

واسْقِْط بني الإخوةِ بالأجدادِ     حُكْماً بعدْلٍ ظاهِِر الإرشادِ

باب الأكدرية

والأُخْتُ لا فَرْضَ مَعَ الْجَدِّ لَها   فِيما عَدا مَسْألَةٍ كَمَّلَهَا

زوْجٌ وأُمٌّ وهُمَا تَمَامُها    فاعْلَمْ فَخَيْرُ أُمَّةٍ عَلَّامُها

تُعْرَفُ يا صاحِ بالأَكْدَرِيَّهْ   وهْيَ بِأنْ تَعْرِفَها حَرِيَّهْ

فيُفْرَضُ النِّصْفُ لَها والسُّدْسُ لَهْ    حتَّى تَعُولَ بِالفُرُوضِ الْمُجْمَلَهْ

ثُمَّ يَعُودَانِ إِلى الْمُقَاسَمَهْ    كَما مَضَى فاحْفَظْهُ واشْكُرْ ناظِمَهْ

باب الحساب

وإنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْحِسابِ    لِتَهْتَدِي بِهِ إِلى الصَّوابِ

وتَعْرِفَ الْقِسْمَةَ والتَّفْصِيلَا   وتَعْلَمَ التَّصْحِيحَ والتَّأْصِيلاَ

فاسْتَخْرِجِ الأُصُولَ فِي الْمَسَائِلِ   ولا تَكُنْ عَنْ حِفْظِها بِذَاهِلِ

فإنَّهُنَّ سَبْعَةٌ أُصُولُ    ثَلاثَةٌ مِنْهُنَّ قَدْ تَعُولُ

وبَعْدَها أرْبَعَةٌ تَمَامُ    لا عَوْلَ يَعْرُوها ولا انْثِلامُ

فالسُّدْسُ مِنْ سِتَّةِ أسْهُمٍ يُرَى   والثُّلْثُ والرُّبْعُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَا

والثُّمْنُ إنْ ضُمَّ إِلَيْهِ السُّدْسُ   فأصْلُهُ الصَّادِقُ فِيهِ الْحَدْسُ

أربَعَةٌ يَتْبَعُها عِشْرُونَا    يَعْرِفُها الْحُسَّابُ أَجْمَعُونَا

فَهَذِهِ الثَّلاثَةُ الأُصُولُ   إنْ كَثُرَتْ فُرُوضُهَا تَعُولُ

فتَبْلُغُ السِّتَّةُ عِقْدَ الْعَشَرَهْ   فِي صُورَةٍ معروفةٍ مُشْتَهَرَهْ

وتَلْحَقُ الَّتِي تَلِيها بِالأَثَرْ   في العَوْلِ أفْراداً إلى سَبْعَ عَشَرْ

والْعَدَدُ الثَّالِثُ قَدْ يَعُولُ    بِثُمْنِهِ فاعْمَلْ بِما أقُولُ

والنِّصْفُ والْبَاقِي أو النِّصْفانِ   أصْلُهُما فِي حُكْمِهُمُ اثْنَانِ

والثُّلْثُ مِنْ ثَلاثَةٍ يَكُونُ    والرُّبْعُ مِنْ أرْبَعَةٍ مَسْنُونُ

والثُّمْنُ إنْ كانَ فَمِنْ ثَمَانِيَهْ    فَهَذِهِ هِيَ الأصُولُ الثانِيَهْ

لا يَدْخُلُ العَوْلُ عَلَيْها فاعْلَمِ    ثُمَّ اسْلُكِ التَّصْحِيحَ فِيها واقْسِمِ

وإنْ تَكُنْ مِنْ أصْلِها تَصِحُّ   فتَرْكُ تَطْويلِ الْحِسَابِ رِبْحُ

فَأَعْطِ كُلاًّ سَهْمَهُ مِنْ أصْلِهَا    مُكَمَّلاً أوْ عائِلاً مِنْ عَوْلِهَا

باب السهام

وإنْ تَرَ السِّهامَ لَيْسَتْ تَنْقَسِمْ   عَلَى ذَوِي الْمِيراثِ فاتْبَعْ ما رُسِمْ

واطْلُبْ طَرِيقَ الاخْتِصارِ فِي العَمَلْ   بِالوِفْقِ والضَّرْبِ يُجانِبْكَ الزَّلَلْ

وارْدُدْ إِلى الْوَفْقِ الَّذِي يُوافِقُ   واضْرِبْهُ فِي الأصلِ فأنْتَ الحاذِقُ

إنْ كانَ جِنْساً واحِداً أوْ أكْثَرَا   فاتبع سبيل الحق واطرح المرا

وإِنْ تَرَ الكَسْرَ عَلَى أجْناسِ   فإنَّها فِي الْحُكْمِ عِندَ النَّاسِ

تُحْصَرُ فِي أَرْبَعةِ أقْسَامِ   يَعْرِفُها الْمَاهِرُ فِي الأَحْكامِ

مُمَاثِلٌ مِنْ بَعْدِهِ مُنَاسِبُ    وبَعْدَهُ مُوافِقٌ مُصاحِبُ

والرَّابِعُ الْمُبَايِنُ الْمُخَالِفُ   يُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهِنَّ الْعارِفُ

فَخُذْ مِنَ الْمُمَاثِلَيْنِ واحِدَا    وخُذْ مِنَ الْمُناسِبَيْنِ الزَّائدَا

واضْرِبْ جَميعَ الْوَفْقِ فِي الْمُوافِقِ    واسْلُكْ بِذاكَ أَنْهَجَ الطَّرائِقِ

وخُذْ جَمِيعَ الْعَدَدِ الْمُبايِنِ     واضْرِبْهُ فِي الثَّانِي ولا تُدَاهِنِ

فَذَاكَ جُزْءُ السَّهْمِ فاحْفَظَنْهُ    واحذَرْ هُدِيتَ أنْ تَزيغَ عَنْهُ

واضْرِبْهُ فِي الأَصْلِ الَّذي تَأَصَّلَا   وأحْصِ ما انضمَّ ومَا تَحَصَّلَا

واقسِمْهُ فالقَسْمُ إذاً صَحِيحُ    يَعْرِفُهُ الأَعْجَمُ والفَصِيحُ

فَهَذِهِ مِنَ الْحِسابِ جُمَلُ    يَأْتِي عَلَى مِثَالِهِنَّ الْعَمَلُ

مِنْ غَيْرِ تَطْويلٍ ولا اعْتِسافِ    فاقْنَعْ بِمَا بُيِّنَ فَهُوَ كافِ

باب المناسخة

وإِنْ يَمُتْ آخَرُ قَبْلَ الْقِسْمَهْ   فَصَحِّحِ الْحِسابَ واعْرِفْ سَهْمَهُ

واجْعَلْ لَهُ مَسْأَلةً أُخْرَى كَما   قدْ بُيِّنَ التَّفْصيلُ فِيما قُدِّمَا

وإنْ تَكُنْ لَيْسَتْ عَلَيْها تَنْقِسِمْ    فارْجِعْ إلى الْوَفْقِ بِهَذَا قَدْ حُكِمْ

وانْظُرْ فإِنْ وافَقَتِ السِّهامَا    فَخُذْ هُدِيتَ وَفْقَها تَمامَا

واضْرِبْهُ أوْ جَمِيعَها في السَّابِقهْ     إنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُما مُوافَقَهْ

وكُلُّ سَهْمٍ فِي جَميعِ الثَّانِيهْ     يُضْرَبُ أوْ فِي وَفْقِها عَلانِيهْ

وأسْهُمُ الأُخرى فَفِي السِّهامِ    تُضْرَبُ أوْ فِي وَفْقِها تَمَامِ

فهذه طَرِيقَةُ الْمُناسَخَهْ    فارْقَ بِها رُتْبَةَ فَضْلٍ شامِخَهْ

باب الخنثى المشكل والمفقود والحمل

وإنْ يَكُنْ فِي مُسْتَحِقِّ الْمالِ    خُنْثى صَحِيحٌ بَيِّنُ الإِشْكَالِ

فاقْسِمْ عَلَى الأَقَلِّ واليَقينِ    تَحْظَ بِحَقِّ الْقِسْمَةِ والتبيينِ

واحْكُمْ عَلَى الْمفْقودِ حُكْمَ الْخُنْثى    إنْ ذَكَراً يكونُ أوْ هُو أُنْثى

وهَكَذا حُكْمُ ذَواتِ الْحَمْلِ    فابْنِ عَلَى الْيَقِينِ والأَقَلِّ

باب الغرقى والهدمى والحرقى

وإنْ يَمُتْ قَوْمٌ بِهَدْمٍ أوْ غَرَقْ    أوْ حادِثٍ عَمَّ الْجَمِيعَ كالْحَرَقْ

وَلَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ حالُ السَّابِقِ    فَلا تُوَرِّثْ زَاهِقاً مِنْ زاهِقِ

وعُدَّهُمْ كأنَّهُمْ أجانِبُ     فَهَكَذا الْقَوْلُ السَّدِيدُ الصَّائبُ

الخاتمة

وَقَدْ أَتَى القَولُ عَلَى مَا شِئْنَا    مِن قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ إِذْ بَيَّنَّا

عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ والْإِشَارَهْ   مُلَخَّصًا بأَوْجَزِ الْعِبَارَهْ

فالْحَمْدُ للهِ عَلَى التَّمامِ    حَمْداً كَثِيراً تَمَّ فِي الدَّوامِ

نسْأَلُهُ العَفْوَ عَنِ التَّقْصِيرِ    وَخَيْرَ ما نأْمُلُ فِي الْمَصِيرْ

وغَفْرَ ما كانَ مِنَ الذُّنُوبِ     وسَتْرَ ما كَانَ مِنَ العُيُوبِ

وأفْضَلُ الصَّلاةِ والتَّسْلِيمِ    عَلَى النَّبِيَّ الْمُصْطَفى الْكَرِيمِ

مُحَمَّدٍ خَيْرِ الأَنامِ العَاقِبِ    وَآلِهِ الْغُرِّ ذَوِي الْمَناقِبِ

وصَحْبِهِ الأَمَاجِدِ الأبْرارِ    الصَّفْوةِ الأَكابِرِ الأَخْيارِ

مقدمة في أصول التفسير منقول

                              بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن برحمتك الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما

أما بعد: فقد سألني بعض الأخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه والتمييز فى منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل فإن الكتب المصنفة فى التفسير مشحونة بالغث والسمين والباطل الواضح والحق المبين

والعلم اما نقل مصدق عن معصوم واما قول عليه دليل معلوم وما سوى هذا فاما مزيف مردود واما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن الذى هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الترديد ولا تنقضى عجائبه ولا يشبع منه العلماء من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى الى صراط مستقيم ومن تركه من جبار قصمه الله ومن إبتغى الهدى فى غيره أضله الله

قال تعالى فأما يأتينكم منى هدى فمن أتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وقال تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وقال تعالى الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض ألا إلى الله تصير الأمور

وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد والله الهادي إلى سبيل الرشاد فصل

يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معانى القرآن كما بين لهم ألفاظه فقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم يتناول هذا وهذا وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ولهذا كانوا يبقون مدة فى حفظ السورة وقال أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فى أعيننا وأقام إبن عمر على حفظ البقرة عدة سنين قيل ثمان سنين ذكره مالك

آياته وقال أفلا يتدبرون القرآن وقال أفلم يدبروا القول وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن وكذلك قال تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وعقل الكلام متضمن لفهمه

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد الفاظه فالقرآن أولى بذلك وايضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذى هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ولهذا كان النزاع بين الصحابة فى تفسير القرآن قليلا جدا وهو وان كان فى التابعين أكثر منه فى الصحابة فهو قليل بالنسبة الى من بعدهم وكلما كان العصر اشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها ولهذا قال الثورى اذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعى والبخارى وغيرهما من أهل العلم وكذلك الامام أحمد وغيره ممن صنف فى التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره

والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علموذلك أن الله تعالى قال كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا السنة وان كانوا قد يتكلمون فى بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون فى بعض السنن بالاستنباط والاستدلال

فصل

الخلاف بين السلف فى التفسير قليل وخلافهم فى الأحكام أكثر من خلافهم فى التفسير وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع الى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان

أحدهما أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى فى المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى بمنزلة الأسماء المتكافئة التى بين المترادفة والمتباينة كما قيل فى اسم السيف الصارم والمهند وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن فان أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر بل الامر كما قال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى

وكل اسم من اسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التى تضمنها الإسم كالعليم يدل على الذات والعلم والقدير يدل على الذات والقدرة والرحيم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعى الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون لا يقال هو حى ولا ليس بحى بل ينفون عنه النقيضين فان أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما فى أسمائه الحسنى من صفات الاثبات فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو فى الظاهر موافقا لغلاة الباطنية فى ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك

وإنما المقصود ان كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما فى الاسم من صفاته ويدل أيضا على الصفة التى فى الاسم الآخر بطريق اللزوم وكذلك اسماء النبى صلى الله عليه وسلم مثل محمد وأحمد والماحى والحاشر والعاقب وكذلك اسماء القرآن مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب وأمثال ذلك

فاذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأى اسم كان اذا عرف مسمى هذا الاسم وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله ومن أعرض عن ذكرى ما ذكره فيقال له هو القرآن مثلا أو هو ما أنزله من الكتب فان الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف الى الفاعل وتارة الى المفعول فإذا قيل ذكر الله بالمعنى الثانى كان ما يذكر به مثل قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر واذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه وهذا هو المراد فى قوله ومن أعرض عن ذكرى لأنه قال قبل ذلك فاما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى وهداه هو ما أنزله من الذكر وقال بعد ذلك قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها

والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له فسواء قيل ذكرى كتابى أو كلامى أو هداى أو نحو ذلك كان المسمى واحدا

وإن كان مقصود السائل معرفة ما فى الاسم من الصفة المختصة به فلابد من قدر زائد على تعيين المسمى مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك

اذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وان كان فيها من الصفة ما ليس فى الاسم الآخر كمن يقول أحمد هو الحاشر والماحى والعاقب والقدوس هو الغفور والرحيم أى أن المسمى واحد لا ان هذه الصفة هى هذه الصفة ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم

فقال بعضهم هو القرآن أى اتباعه لقول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث على الذى رواه الترمذى ورواه أبو نعيم من طرق متعددة هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وقال بعضهم هو الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث النواس بن سمعان الذى رواه الترمذى وغيره ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتى الصراط سوران وفى السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو من فوق الصراط وداع يدعو على رأس الصراط قال فالصراط المستقيم هو الاسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعى على رأس الصراط كتاب الله والداعى فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مؤمن فهذان القولان متفقان لأن دين الاسلام هو اتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال هو طريق العبودية وقول من قال هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وامثال ذلك فهؤلاء كلهم اشاروا الى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها

الصنف الثانى أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه مثل سائل أعجمى سأل عن مسمى لفظ الخبز فأرى رغيفا وقيل له هذا فالاشارة الى نوع هذا لا الى هذا الرغيف وحده مثال ذلك ما نقل فى قوله ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات

فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات فالمقتصدون هم أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون

ثم ان كلا منهم يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات كقول القائل السابق الذى يصلى فى أول الوقت والمقتعد الذى يصلى فى أثنائه والظالم لنفسه الذى يؤخر العصر الى الاصفرار ويقول الآخر السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم فى آخر سورة البقرة فانه ذكر المحسن بالصدقة والظالم يأكل الربا والعادل بالبيع والناس فى الاموال اما محسن وإما عادل وإما ظالم فالسابق المحسن باداء

المستحبات مع الوجبات والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة والمقتصد الذى يؤدى الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذه الأقاويل فكل قول فيه ذكر نوع داخل فى الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره فان التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن اذا أشير له الى رغيف فقيل له هذا هو الخبز

 

وقد يجىء كثيرا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت فى كذا لا سيما ان كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة فى التفسير كقولهم ان آية الظهار نزلت فى امرأة أوس بن الصامت وان آية اللعان نزلت فى عويمر العجلانى أو هلال بن أمية وأن آية الكلالة نزلت فى جابر بن عبدالله وأن قوله وان أحكم بينهم بما أنزل الله نزلت فى بنى قريظة والنضير وان قوله ومن يولهم يومئذ دبره نزلت فى بدر وان قوله شهادة بينكم اذا حضر أحدكم الموت نزلت فى قضية تميم الدارى وعدى بن بداء وقول أبى ايوب ان قوله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة نزلت فينا معشر الأنصار الحديث ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل فى قوم من المشركين بمكة أو فى قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو فى قوم من المؤمنين

فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الاعيان دون غيرهم فان هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الاطلاق والناس وان تنازعوا فى اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا فلم يقل أحد من علماء المسلمين ان عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وانما غاية ما يقال أنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ

والآية التى لها سبب معين ان كانت أمرا ونهيا فهى متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وان كانت خبرا بمدح أو ذم فهى متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضا

ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قولى الفقهاء أنه اذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع الى سبب يمينه وما هيجها وأثارها

وقولهم نزلت هذه الآية فى كذا يراد به تارة أنه سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل فى الآية وان لم يكن السبب كما تقول عنى بهذه الآية كذا

وقد تنازع العلماء فى قول الصاحب نزلت هذه الآية فى كذا هل يجرى مجرى المسند كما يذكر السبب الذى أنزلت لأجله أو يجرى مجرى التفسير منه الذى ليس بمسند فالبخارى يدخله فى المسند وغيره لا يدخله فى المسند وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره بخلاف ما اذا ذكر سببا نزلت عقبه فانهم كلهم يدخلون مثل هذا فى المسند

وإذا عرف هذا فقول أحدهم نزلت فى كذا لا ينافى قول الآخر نزلت فى كذا اذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه فى التفسير بالمثال واذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الاسباب أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب

وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما فى تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات هما الغالب فى تفسير سلف الأمة الذى يظن أنه مختلف

ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين اما لكونه مشتركا فى اللفظ كلفظ قسورة الذى يراد به الرامى ويراد به الأسد ولفظ عسعس الذى يراد به اقبال الليل وادباره

وأما لكونه متواطئا فى الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر فى قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى وكلفظ الفجر وليال عشر والشفع والوتر وما أشبه ذلك

فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعانى التى قالها السلف وقد لا يجوز ذلك فالأول اما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه اذ قد جوز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من اهل الكلام وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما اذا لم يكن لتخصيصه موجب فهذا النوع اذا صح فيه القولان كان من الصنف الثانى

ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعانى بألفاظ متقاربة لا مترادفة فان الترادف فى اللغة قليل وأما فى ألفاظ القرآن فاما نادر واما معدوم وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدى جميع معناه بل يكون فيه تقريب لمعناه وهذا من اسباب اعجاز القرآن فاذا قال القائل يوم تمور السماء مورا ان المور الحركة كان تقريبا اذ المور حركة خفيفة سريعة

وكذلك اذا قال الوحى الاعلام أو قيل أوحينا اليك أنزلنا اليك أو قيل وقضينا الى بنى اسرائيل أى اعلمنا وأمثال ذلك فهذا كله تقريب لا تحقيق فإن الوحى هو اعلام سريع خفى والقضاء اليهم أخص من الاعلام فإن فيه انزالا إليهم وإيحاء إليهم والعرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض كما يقولون فى قوله لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه أى مع نعاجه و من أنصارى الى الله أى مع الله ونحو ذلك والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها الى نعاجه وكذلك قوله وان كادوا ليفتنونك عن الذى أوحينا اليك ضمن معنى يزيغونك ويصدونك وكذلك قوله ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ضمن معنى نجيناه وخلصناه وكذلك قوله يشرب بها عباد الله ضمن يروى بها ونظائره كثيرة

ومن قال لا ريب لا شك فهذا تقريب والا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال دع ما يريبك الى ما لا يريك وفى الحديث أنه مر بظبى حاقف فقال لا يريبه أحد فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة ولفظ الشك وان قيل أنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه

وكذلك اذا قيل ذلك الكتاب هذا القرآن فهذا تقريب لأن المشار اليه وان كان واحدا فالاشارة بجهة الحضور غير الاشارة بجهة البعد والغيبة ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبا مضموما ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا فهذه الفروق موجودة فى القرآن فاذا قال أحدهم ان تبسل أى تحبس وقال الآخر ترتهن ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد وان كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون اذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم وجمع عبارات السلف فى مثل هذا نافع جدا فان مجموع عباراتهم ادل على المقصود من عبارة أو عبارتين ومع هذا فلابد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك فى الأحكام

ونحن نعلم أن عامة ما يضطر اليه عموم الناس من الاختلاف معلوم بل متواتر عند العامة أو الخاصة كما فى عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها وفرائض الزكاة ونصبها وتعيين شهر رمضان والطواف والوقوف ورمى الجمار والمواقيت وغير ذلك

 

ثم اختلاف الصحابة فى الجد والأخوة وفى المشركة ونحو ذلك لا يوجب ريبا فى جمهور مسائل الفرائض بل ما يحتاج اليه عامة الناس هو عمود النسب من الآباء والابناء والكلالة من الأخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواج فان الله أنزل فى الفرائض ثلاث آيات مفصلة ذكر فى الأولى الأصول والفروع وذكر فى الثانية الحاشية التى ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم وفى الثانية الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الأخوة لأبوين أو لأب واجتماع الجد والأخوة نادر ولهذا لم يقع فى الاسلام الا بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل أو لذهول عنه وقد يكون لعدم سماعه وقد يكون للغلط فى فهم النص وقد يكون لاعتقاد معارض راجح فالمقصود هنا التعريف بجمل الأمر دون تفاصيله

 

فصل

الاختلاف فى التفسير على نوعين منه ما مستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك اذ العلم اما نقل مصدق واما استدلال محقق والمنقول اما عن المعصوم واما عن غير المعصوم والمقصود بان جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم وهذا هو النوع الأول منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه وهذا القسم الثانى من المنقول وهو ما لا طريق لنا الى جزم بالصدق منه عامته مما لا فائدة فيه فالكلام فيه من فضول الكلام

وأما ما يحتاج المسلمون الى معرفته فان الله نصب على الحق فيه دليلا فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم فى لون كلب أصحاب الكهف وفىالبعض الذى ضرب به موسى من البقرة وفى مقدار سفينة نوح وما كان خشبها وفى اسم الغلام الذى قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريق العلم بها النقل فما كان من هذا منقولا نقلا صحيحا عن النبى صلى الله عليه وسلم كاسم صاحب موسى أنه الخضر فهذا معلوم وما لم يكن كذلك بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه الا بحجة كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال اذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فاما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه واما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه

وكذلك ما نقل عن بعض التابعين وان لم يذكر أنه أخذه عن اهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض وما نقل فى ذلك عن بعض الصحابة نقلا صحيحا فالنفس اليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين لأن احتمال ان يكون سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصاحب فيما يقوله فكيف يقال إنه أخذه عن اهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذى لا يعلم صحيحه ولا تفيد حكاية الأقوال فيه هو كالمعرفة لما يروى من الحديث الذى لا دليل على صحته وأمثال ذلك

وأما القسم الأول الذى يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود فيما يحتاج اليه ولله الحمد فكثيرا ما يوجد فى التفسير والحديث والمغازى أمور منقولة عن نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك بل هذا موجود فيما مستنده النقل وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل

فالمقصود أن المنقولات التى يحتاج اليها فى الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره ومعلوم أن المنقول فى التفسير أكثره كالمنقول فى المغازى والملاحم ولهذا قال الامام أحمد ثلاثة أمور ليس لها اسناد التفسير والملاحم والمغازى ويروى ليس لها أصل أى اسناد لأن الغالب عليها المراسيل مثل ما يذكره عروة بن الزبير والشعبى والزهرى وموسى بن عقبة وابن اسحاق ومن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموى والوليد بن مسلم والواقدى ونحوهم فى المغازى فان أعلم الناس بالمغازى أهل المدينة ثم أهل الشام ثم أهل العراق فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم ولهذا عظم الناس كتاب أبى اسحاق الفزارى الذى صنفه فى ذلك وجعلوا الاوزاعى أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار

 

وأما التفسير فان أعلم الناس به أهل مكة لأنهم اصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبى رباح وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من اصحاب ابن عباس كطاووس وأبى الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم وكذلك أهل الكوفة من اصحاب ابن مسعود ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم وعلماء أهل المدينة فى التفسير مثل زيد بن أسلم الذى أخذ عنه مالك التفسير وأخذه عنه أيضا ابنه عبدالرحمن وأخذه عن عبدالرحمن عبد الله بن وهب

و المراسيل اذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصدا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعا فان النقل اما أن يكون صدقا مطابقا للخبر واما أن يكون كذبا تعمد صاحبه الكذب أو أخطأ فيه فمتى سلم من الكذب العمد والخطأ كان صدقا بلا ريب

 

فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات وقد علم أن المخبرين لم يتواطئا على اختلاقه وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقا بلا قصد علم أنه صحيح مثل شخص يحدث عن واقعة جرت ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال ويأتى شخص آخر قد علم أنه لم يواطىء الأول فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال فيعلم قطعا ان تلك الواقعة حق فى الجملة فانه لو كان كل منهما كذبها عمدا أو خطأ لم يتفق فى العادة أن يأتى كل منهما بتلك التفاصيل التى تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه فان الرجل قد يتفق أن ينظم بيتا وينظم الآخر مثله أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها اما اذا أنشأ قصيدة طويلة ذات فنون على قافية وروى فلم تجر العادة بأن غيره ينشىء مثلها لفظا ومعنى مع الطول المفرط بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه وكذلك اذا حدث حديثا طويلا فيه فنون وحدث آخر بمثله فانه اما أن يكون واطأه عليه أو اخذه منه أو يكون الحديث صدقا وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما نتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات وان لم يكن أحدها كافيا اما لارساله واما لضعف ناقله لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التى لا تعلم بهذه الطريق فلا يحتاج ذلك الى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بدر وأنها قبل أحد بل يعلم قطعا أن حمزة وعليا وعبيدة برزوا الى عتبة وشيبة والوليد وأن عليا قتل الوليد وان حمزة قتل قرنه ثم يشك فى قرنه هل هو عتبة أو شيبة

وهذا الأصل ينبغى أن يعرف فانه أصل نافع فى الجزم بكثير من المنقولات فى الحديث والتفسير والمغازى وما ينقل من اقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك

 

ولهذا اذا روى الحديث الذى يتأتى فيه ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجهين مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جزم بأنه حق لا سيما اذا علم أن نقلته ليسوا ممن يتعمد الكذب وانما يخاف على أحدهم النسيان والغلط فان من عرف الصحابة كابن مسعود وأبى بن كعب وابن عمر وجابر وأبى سعيد وأبى هريرة وغيرهم علم يقينا أن الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلا عمن هو فوقهم كما يعلم الرجل من حال من جربه وخبره خبرة باطنة طويلة أنه ليس ممن يسرق اموال الناس ويقطع الطريق ويشهد بالزور ونحو ذلك

وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة فان من عرف مثل أبى صالح السمان والأعرج وسليمان بن يسار وزيد بن أسلم وأمثالهم علم قطعا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب فى الحديث فضلا عمن هو فوقهم مثل محمد بن سيرين والقاسم بن محمد أو سعيد بن المسيب أو عبيدة السلمانى أو علقمة أو الأسود أو نحوهم وانما يخاف على الواحد من الغلط فان الغلط والنسيان كثيرا ما يعرض للانسان ومن الحفاظ من قد عرف الناس بعده عن ذلك جدا كما عرفوا حال الشعبى والزهرى وعروة وقتادة والثورى وأمثالهم لا سيما الزهرى فى زمانه والثورى فى زمانه فانه قد يقول القائل ان ابن شهاب الزهرى لا يعرف له غلط مع كثرة حديثه وسعة حفظه

و المقصود أن الحديث الطويل اذا روى مثلا من وجهين مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذبا فان الغلط لا يكون فى قصة طويلة متنوعة وانما يكون فى بعضها فاذا روى هذا قصة طويلة متنوعة ورواها الآخر مثلما رواها الأول من غير مواطأة امتنع الغلط فى جميعها كما امتنع الكذب فى جميعها من غير مواطأة

ولهذا انما يقع فى مثل ذلك غلط فى بعض ما جرى فى القصة مثل حديث اشتراء النبى صلى الله عليه وسلم البعير من جابر فان من تأمل طرقه علم قطعا أن الحديث صحيح وان كانوا قد اختلفوا فى مقدار الثمن وقد بين ذلك البخارى فى صحيحه فان جمهور ما فى البخارى ومسلم مما يقطع بأن النبى صلى الله عليه وسلم قاله لأن غالبه من هذا النحو ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق والأمة لا تجتمع على خطأ فلو كان الحديث كذبا فى نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو فى نفس الأمر كذب وهذا اجماع على الخطأ وذلك ممتنع وان كنا نحن بدون الاجماع نجوز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الاجماع على العلم الذى ثبت بظاهر أو قياس ظنى أن يكون الحق فى الباطن بخلاف ما اعتقدناه فاذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنا وظاهرا

ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد اذا تلقته الأمة بالقبول تصديقا له أو عملا به أنه يوجب العلم وهذا هو الذى ذكره المصنفون فى أصول الفقه من اصحاب أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد الا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا فى ذلك طائفة من اهل الكلام انكروا ذلك ولكن كثيرا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك وهو قول أكثر الاشعرية كابى اسحق وابن فورك واما ابن الباقلانى فهو الذى أنكر ذلك وتبعه مثل أبى المعالى وأبى حامد وابن عقيل وابن الجوزى وابن الخطيب والآمدى ونحو هؤلاء والأول هو الذى ذكره الشيخ أبو حامد وابو الطيب وابو اسحق وأمثاله من أئمة الشافعية وهو الذى ذكره القاضى عبدالوهاب وأمثاله من المالكية وهو الذى ذكره ابو يعلى وابو الخطاب وابو الحسن ابن الزاغونى وأمثالهم من الحنبلية وهو الذى ذكره شمس الدين السرخسى وأمثاله من الحنفية واذا كان الاجماع على تصديق الخبر موجبا للقطع به فالاعتبار فى ذلك باجماع اهل العلم بالحديث كما أن الاعتبار فى الإجماع على الأحكام باجماع أهل العلم بالأمر والنهى والاباحة

والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الإتفاق فى العاده يوجب العلم بمضمون المنقول لكن هذا ينتفع به كثيرا فى علم أحوال الناقلين وفى مثل هذا ينتفع بروايه المجهول والسيىء الحفظ وبالحديث المرسل ونحو ذلك ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الاحاديث ويقولون إنه يصلح للشواهد والاعتبار مالايصلح لغيره قال احمد قد أكتب حديث الرجل لاعتبره ومثل هذا بعبد الله بن لهيعه قاضى مصر فانه كان من اكثر الناس حديثا ومن خيار الناس لكن بسبب إحتراق كتبه وقع فى حديثه المتاخر غلط فصار يعتبر بذلك ويستشهد به وكثيرا مايقترن هو والليث بن سعد والليث حجه ثبت إمام وكما

أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذى فيه سوء حفظ فانهم أيضا يضعفون من حديث الثقة الصدق الضابط أشياء تبين لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلون بها ويسمون هذا علم علل الحديث وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه وغلطه فيه عرف اما بسبب ظاهر كما عرفوا أن النبى صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال وأنه صلى فى البيت ركعتين وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حراما ولكونه لم يصل مما وقع فيه الغلط وكذلك أنه اعتمر أربع عمر وعلموا أن قول ابن عمر أنه اعتمر فى رجب مما وقع فيه الغلط وعلموا أنه تمتع وهو آمن فى حجة الوداع وان قول عثمان لعلى كنا يومئذ خائفين مما وقع فيه الغلط وان ما وقع فى بعض طرق البخارى أن النار لا تمتلىء حتى ينشىء الله لها خلقا آخر مما وقع فيه الغلط وهذا كثير

 

والناس فى هذا الباب طرفان طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك فى صحة أحاديث أو فى القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم به وطرف ممن يدعى اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظا فى حديث قد رواه ثقة أو راى حديثا باسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى اذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلا له فى مسائل العلم مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون ان مثل هذا غلط

وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك فعليه ادلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من اهل البدع والغلو فى الفضائل مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيا

وفى التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذى يرويه الثعلبى والواحدى والزمخشرى فى فضائل سور القرآن سورة سورة فانه موضوع باتفاق أهل العلم

و الثعلبى هو فى نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل ينقل ما وجد فى كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع و الواحدى صاحبه كان أبصر منه بالعربية لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف والبغوى تفسيره مختصر من الثعلبى لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة

والموضوعات فى كتب التفسير كثيرة مثل الأحاديث الكثيرة الصريحة فى الجهر بالبسملة وحديث على الطويل فى تصدقه بخاتمه فى الصلاة فانه موضوع باتفاق أهل العلم ومثل ما روى فى قوله ولكل قوم هاد أنه على وتيعها اذن واعية اذنك يا على

 

فصل

وأما النوع الثانى من مستندى الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم باحسان فان التفاسير التى يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شىء من هاتين الجهتين مثل تفسير عبدالرزاق ووكيع وعبد بن حميد وعبدالرحمن بن ابراهيم دحيم ومثل تفسير الامام أحمد واسحق بن راهويه وبقى بن مخلد وأبى بكر بن المنذر وسفيان بن عيينة وسنيد وابن جرير وابن أبى حاتم وأبى سعيد الأشج وأبى عبدالله بن ماجه وابن مردويه احداهما قوم اعتقدوا معانى ثم أرادوا حمل الفاظ القرآن عليها و الثانية قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر الى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به في الأولون راعوا المعنى الذى رأوه من غير نظر الى ما تستحقه الفاظ القرآن من الدلالة والبيان

و الآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربى من غير نظر الى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة كما يغلط فى ذلك الذين قبلهم كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون فى صحة المعنى الذى فسروا به القرآن كما يغلط فى ذلك الآخرون وان كان نظر الأولين الى المعنى أسبق ونظر الأخرين الى اللفظ أسبق

والأولون صنفان تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به وفى كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو اثباته من المعنى باطلا فيكون خطؤهم فى الدليل والمدلول وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فى الدليل لا فى المدلول

 

وهذا كما أنه وقع فى تفسير القرآن فانه وقع أيضا فى تفسير الحديث فالذين أخطأوا فى الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذى عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها وعمدوا الى القرآن فتأولوه على آرائهم تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن يخلقها الله لا خيرها ولا شرها ولم يرد الا ما أمر به شرعا وما سوى ذلك فانه يكون بغير مشيئته وقد وافقهم على ذلك متأخرى الشيعة كالمفيد وأبى جعفر الطوسى وامثالهما ولأبى جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة لكن يضم الى ذلك قول الامامية ألاثنى عشرية فان المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك ولا من ينكر خلافة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى

 

ومن أصول المعتزلة مع الخوارج انفاذ الوعيد فى الآخرة وأن الله لا يقبل فى أهل الكبائر شفاعة ولا يخرج منهم أحدا من النار ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم فأحسنوا تارة واساءوا أخرى حتى صاروا فى طرفى نقيض كما قد بسط فى غير هذا الموضع والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيا ثم حملوا الفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم باحسان ولا من أئمة المسلمين لا فى رأيهم ولا فى تفسيرهم وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة الا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة وذلك من جهتين تارة من العلم بفساد قولهم وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن اما دليلا على قولهم أو جوابا على المعارض لهم ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحا ويدس البدع فى كلامه وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر فى كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التى يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدى لذلك

ثم أنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الامامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو ابلغ من ذلك وتفاقم الأمر فى الفلاسفة والقرامطة والرافضة فانهم فسروا القرآن بانواع لا يقضى العالم منها عجبه فتفسير الرافضة كقولهم تبت يدا أبى لهب هما ابو بكر وعمر و لئن اشركت ليحبطن عملك أى بين أبى بكر وعلى فى الخلافة و إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة هى عائشة و قاتلوا أئمة الكفر طلحة والزبير و مرج البحرين على وفاطمة و اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين وكل شىء أحصيناه فى امام مبين فى على بن أبى طالب و عم يتساءلون عن النبأ العظيم على بن أبى طالب و إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هو على ويذكرون الحديث الموضوع باجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه فى الصلاة وكذلك قوله اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة نزلت فى على لما اصيب بحمزة

ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين فى مثل قوله الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالاسحار ان الصابرين رسول الله والصادقين أبو بكر والقانتين عمر والمنفقين عثمان والمستغفرين على وفى مثل قوله محمد رسول الله والذين معه أبو بكر اشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا على

وأعجب من ذلك قول بعضهم والتين ابو بكر والزيتون عمر وطور سينين عثمان وهذا البلد الأمين على وأمثال هذه الخرافات التى تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال فان هذه الالفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص وقوله تعالى والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا كل ذلك نعت للذين معه وهى التى يسميها النحاة خبرا بعد خبر و المقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه ولا يجوز أن يكون كل منها مرادا به شخص واحد وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرا فى شخص واحد كقوله ان قوله انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا أريد بها على وحده وقول بعضهم ان قوله والذى جاء بالصدق وصدق به اريد بها أبو بكر وحده وقوله لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك

 

و تفسير ابن عطية وأمثاله اتبع للسنة والجماعة واسلم من البدعة من تفسير الزمخشرى ولو ذكر كلام السلف الموجود فى التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل فانه كثيرا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبرى وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ثم أنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين وانما يعنى بهم طائفة من اهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم وان كانوا أقرب الى السنة من المعتزلة لكن ينبغى أن يعطى كل ذى حق حقه ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب

فإن الصحابة والتابعين والأئمة اذا كان لهم فى تفسير الآية قول وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم باحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من اهل البدع فى مثل هذا

و فى الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم الى ما يخالف ذلك كان مخطئا فى ذلك بل مبتدعا وان كان مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذى بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ فى الدليل والمدلول جميعا ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها اما عقلية واما سمعية كما هو مبسوط فى موضعه

و المقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف فى التفسير وان من أعظم أسبابه البدع الباطلة التى دعت أهلها الى أن حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أريد به وتأولوه على غير تأويله فمن اصول العلم بذلك أن يعلم الانسان القول الذى خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق

وكذلك وقع من الذين صنفوا فى شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره

وأما الذين يخطئون فى الدليل لا فى المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا يدل عليها مثل كثير مما ذكره أبو عبدالرحمن السلمى فى حقائق التفسير وان كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة فان ذلك يدخل فى القسم الأول وهو الخطأ فى الدليل والمدلول جميعا حيث يكون المعنى الذى قصدوه فاسدا

 

فصل

فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير فالجواب ان اصح الطرق فى ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل فى مكان فانه قد فسر فى موضع آخر وما اختصر من مكان فقد بسط فى موضع آخر فان أعياك ذلك فعليك بالسنة فانها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الامام أبو عبدالله محمد بن ادريس الشافعى كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن قال الله تعالى انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما وقال تعالى وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون وقال تعالى وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا انى أوتيت القرآن ومثله معه يعنى السنة

والسنة أيضا تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن لا أنها تتلى كما يتلى وقد استدل الامام الشافعى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك

والغرض انك تطلب تفسير القرآن منه فان لم تجده فمن السنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه الى اليمن بم تحكم قال بكتاب الله قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله قال فان لم تجد قال أجتهد رأيى قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدره وقال الحمد لله الذى وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله وهذا الحديث فى المساند والسنن باسناد جيد

 

وحينئذ اذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة رجعنا فى ذلك الى أقوال الصحابة فانهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التى اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين مثل عبدالله بن مسعود قال الامام ابو جعفر محمد بن جرير الطبرى حدثنا أبو كريب قال انبأنا جابر بن نوح أنبأنا الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق قال قال عبدالله يعنى ابن مسعود والذى لا اله غيره ما نزلت آية من كتاب الله الا وأنا اعلم فيمن نزلت واين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناوله المطايا لاتيته وقال الأعمش ايضا عن أبى وائل عن ابن مسعود قال كان الرجل منا اذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن

ومنهم الحبر البحر عبدالله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار أنبأنا وكيع أنبأنا سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال قال عبدالله يعنى ابن مسعود نعم ترجمان القرآن ابن عباس ثم رواه عن يحيى بن داود عن اسحاق الازرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبى الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال نعم الترجمان للقرآن ابن عباس ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك فهذا اسناد صحيح الى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة وقد مات ابن مسعود فى سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود وقال الأعمش عن أبى وائل استخلف على عبدالله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ فى خطبته سورة البقرة وفى رواية سورة النور ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا

ولهذا غالب ما يرويه اسماعيل بن عبدالرحمن السدى الكبير فى تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس ولكن فى بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التى أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى اسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار رواه البخارى عن عبدالله بن عمرو ولهذا كان عبدالله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الاذن فى ذلك

ولكن هذه الأحاديث الاسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد فانها على ثلاثة أقسام

أحدها ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح

والثانى ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه

والثالث ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود الى أمر دينى ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب فى مثل هذا كثيرا ويأتى عن المفسرين خلاف بسبب ذلك كما يذكرون فى مثل هذا أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أى الشجر كانت وأسماء الطيور التى أحياها الله لابراهيم وتعيين البعض الذى ضرب به القتيل من البقرة ونوع الشجرة التى كلم الله منها موسى الى غير ذلك مما أبهمه الله فى القرآن مما لا فائدة فى تعيينه تعود على المكلفين فى دنياهم ولا دينهم ولكن نقل الخلاف عنهم فى ذلك جائز كما قال تعالى سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى اعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل فلا تمار فيهم الامراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا

فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب فى هذا المقام وتعليم ما ينبغى فى مثل هذا فانه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث فدل على صحته اذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ثم ارشد الى الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته فيقال فى مثل هذا قل ربى أعلم بعدتهم فانه ما يعلم بذلك الا قليل من الناس ممن اطلعه الله عليه فلهذا قال فلا تمار فيهم الامراء ظاهرا أى لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك الا رجم الغيب

فهذا أحسن ما يكون فى حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال فى ذلك المقام وان ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الاهم فأما من حكى خلافا فى مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص اذ قد يكون الصواب فى الذى تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا فان صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب أو جاهلا فقد أخطأ كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة لفظا ويرجع حاصلها الى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور والله الموفق للصواب فصل

اذا لم تجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة فى ذلك الى أقوال التابعين

كمجاهد ابن جبر فانه كان آية فى التفسير كما قال محمد بن اسحاق حدثنا ابان بن صالح عن مجاهد قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته الى خاتمته أوقفه عند كل آية منه واسأله عنها وبه الى الترمذى قال حدثنا الحسين بن مهدى البصرى حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ما فى القرآن آية الا وقد سمعت فيها شيئا وبه اليه قال حدثنا ابن أبى عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش قال قال مجاهد لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب قال حدثنا طلق بن غنام عن عثمان المكى عن ابن أبى مليكة قال رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه الواحه قال فيقول له ابن عباس اكتب حتى سأله عن التفسير كله ولهذا كان سفيان الثورى يقول اذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به

وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبى رباح والحسن البصرى ومسروق بن الاجدع وسعيد بن المسيب وأبى العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم فى الآية فيقع فى عباراتهم تباين فى الالفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا وليس كذلك فان منهم من يعبر عن الشىء بلازمه أو نظيره ومنهم من ينص على الشىء بعينه والكل بمعنى واحد فى كثير من الاماكن فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادى

وقال شعبة بن الحجاج وغيره أقوال التابعين فى الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة فى التفسير يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم مما خالفهم وهذا صحيح اما اذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب فى كونه حجة فان اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع فى ذلك الى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو اقوال الصحابة فى ذلك

فأما تفسير القرآن بمجرد الرأى فحرام حدثنا مؤمل حدثنا سفيان حدثنا عبد الاعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبدالاعلى الثعلبى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار وبه الى الترمذى قال حدثنا عبد بن حميد حدثنى حسان بن هلال قال حدثنا سهيل أخو حزم القطعى قال حدثنا أبو عمران الجونى عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال فى القرآن برايه فاصاب فقد أخطأ قال الترمذى هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث فى سهيل بن أبى حزم

وهكذا روى بعض أهل العلم من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا فى أن يفسر القرآن بغير علم وأما الذى روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما من اهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا فى القرآن وفسروه بغير علم أو من قبل أنفسهم وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل انفسهم بغير علم فمن قال فى القرآن برايه فقد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما امر به فلو أنه اصاب المعنى فى نفس الأمر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الامر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو فى النار وان وافق حكمه الصواب فى نفس الأمر لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ والله أعلم وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين فقال فاذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى فى نفس الأمر لأنه أخبر بما لا يحل له الاخبار به وتكلف ما لا علم له به والله أعلم

 

ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبدالله بن مرة عن أبى معمر قال قال أبو بكر الصديق أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى اذا قلت فى كتاب الله ما لم أعلم وقال أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا محمود بن يزيد

عن العوام بن حوشب عن ابراهيم التيمى ان أبا بكر الصديق سئل عن قوله وفاكهة وأبا فقال أى سماء تظلنى وأى أرض تقلنى ان أنا قلت فى كتاب الله ما لا أعلم منقطع وقال أبو عبيد أيضا حدثنا يزيد عن حميد عن انس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر وفاكهة وابا فقال هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ثم رجع الى نفسه فقال ان هذا لهو التكلف يا عمر وقال عبد بن حميد حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال كنا عند عمر بن الخطاب وفى ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ وفاكهة وابا فقال ما الأب ثم قال ان هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه

وهذا كله محمول على أنهما رضى الله عنهما انما أرادا استكشاف علم كيفية الاب والا فكونه نبتا من الارض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى فانبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا

وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن ابراهيم قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبى مليكة ان ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فابى أن يقول فيها اسناده صحيح وقال أبو عبيد حدثنا اسماعيل بن ابراهيم عن ايوب عن ابن ابى مليكة قال سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة فقال له ابن عباس فما يوم كان مقداره خمسين الف سنة فقال الرجل انما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله فى كتابه الله اعلم بهما فكره أن يقول فى كتاب الله ما لايعلم وقال ابن جرير حدثنى يعقوب يعنى ابن ابراهيم حدثنا ابن علية عن مهدى بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال جاء طلق بن حبيب الى جندب بن عبدالله فسأله عن آية من القرآن فقال احرج عليك أن كنت مسلما لما قمت عنى أو قال ان تجالسنى وقال مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان اذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال انا لا نقول فى القرآن شيئا

وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم الا فى المعلوم من القرآن وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال لا تسألنى عن القرآن وسل من يزعم أنه لا خفى عليه منه شىء يعنى عكرمة وقال ابن شوذب حدثنى يزيد بن أبى يزيد قال كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام وكان اعلم الناس فاذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع

وقال ابن جرير حدثنى أحمد بن عبدة الضبى حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيدالله بن عمر قال لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول فى التفسير منهم سالم بن عبدالله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع وقال أبو عبيد حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة قال ما سمعت أبى تأول آية من كتاب الله قط وقال ايوب وابن عون وهشام الدستوائى عن محمد بن سيرين قال سألت عبيدة السلمانى عن آية من القرآن فقال ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن فاتق الله وعليك بالسداد

وقال ابو عبيد حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيدالله بن مسلم بن يسار عن ابيه قال اذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده حدثنا هشيم عن مغيرة عن ابراهيم قال كان اصحابنا يتقون التفسير ويهابونه وقال شعبة عن عبدالله بن ابى السفر قال قال الشعبى والله ما من آية الا وقد سألت الله عنها ولكنها الرواية عن الله وقال ابو عبيد حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبى زائدة عن الشعبى عن مسروق قال اتقوا التفسير فانما هو الرواية عن الله

فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام فى التفسير بما لا علم لهم به فاما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال فى التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه وهذا هو الواجب على كل أحد فإنه كما يجب السكوت عما