الاثنين، 12 يونيو 2023

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 2 الأخير

مختارات من كتاب الفوائد لابن القيم - رحمه الله تعالى - 2

- من اشتغل بالله عن نفسه كفاهُ الله مؤونَة نفسِه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونةَ الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وَكَلهُ الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وَكَلهُ الله إليهم.

- وقولهم: "من ترك لله شيئًا عوَّضَه الله خيرًا منه" حقٌّ، والعوضُ أنواعٌ مختلفة، وأجلُّ ما يعوّضُ به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينةُ القلب به، وقوَّتُه، ونشاطُه، وفرحُه، ورضاهُ عن ربِّه تعالى.

- قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)} [الأنعام: ٥٥].

وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [النساء: ١١٥].

والله تعالى قد بيَّن في كتابه سبيلَ المؤمنين مفصلةً وسبيلَ المجرمين مفصلةً، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفَّق بها هؤلاء والأسباب التي خَذَل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشَفَهما وأوضحَهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتْهما البصائرُ كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.

فإنَّ اللَّبس إنما يقع إذا ضَعُفَ العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطَّاب: إنما تُنْقَضُ عُرى الإسلام عُروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهليةَ. وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه؛ فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه من الجاهلية؛ فإنها منسوبة إلى الجهل، وكلُّ ما خالف الرسول فهو من الجهل؛ فمن لم يعرِفْ سبيلَ المجرمين ولم تستبن له؛ أوشك أن يظنَّ في بعض سبيلهم أنَّها من سبيل المؤمنين؛ كما وقع في هذه الأمة من أمورٍ كثيرةٍ في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلَها من لم يَعرِفْ أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفَّر من خالفها، واستحلَّ منه ما حرمه الله ورسوله؛ كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممَّن ابتدع بدعةً ودعا إليها وكفَّر من خالفها.


- فصل
من ترك الاختيارَ والتدبيرَ في رجاء زيادة أو خوف نقصان أو طلب صحةٍ أو فرارٍ من سقم، وعلمَ أنَّ الله على كل شيء قديرٌ، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير، وأنَّ تدبيره لعبده خيرٌ من تدبير العبد لنفسه، وأنه أعلم بمصلحته من العبد، وأقدر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد منه لنفسه، وأرحم به منه بنفسه، وأبرُّ به منه بنفسه، وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدي تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخَّر عن تدبيره له خطوةً واحدةً؛ فلا متقدمَ له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر؛ فألقى نفسه بين يديه، وسلَّم الأمرَ كلَّه إليه، وانطرحَ بين يديه انطراحَ عبدٍ مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر، له التصرف في عبده بكل ما يشاء، وليس للعبد التصرفُ فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات، وحملَ كَلَّه وحوائجَه ومصالحه من لا يبالي بحملها ولا تُثقِله ولا يَكترِثُ بها، فتولَّاها دونه، وأراه لطفَه وبِرَّهُ ورحمته وإحسانه فيها؛ من غير تعب من العبد ولا نَصَبٍ ولا اهتمام منه؛ لأنَّه قد صرف اهتمامه كله إليه، وجعله وحده همه، فصرف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها؛ فما أطيبَ عيشَه! وما أنعمَ قلبَه وأعظمَ سرورَه وفرحَه!.
وإن أبى إلا تدبيرَه لنفسه، واختيارَه لها، واهتمامَه بحظِّه، دون حقِّ ربه؛ خلَّاه وما اختاره، وولَّاه ما تولى، فحضره الهمُّ والغمُّ والحزن والنكَدُ والخوف والتعب وكسفُ البال وسوءُ الحال؛ فلا قلبَ يصفو، ولا عملَ يزكو، ولا أملَ يحصل، ولا راحةَ يفوزُ بها، ولا لذةَ يتهنَّأُ بها، بل قد حِيْلَ بينه وبين مسرَّته وفرحه وقرَّة عينه؛ فهو يَكدَحُ في الدنيا كَدْحَ الوحشِ، ولا يظفر منها بأمل، ولا يَتزوَّدُ منها لمعادٍ.
والله سبحانه قد أمر العبد بأمر، وضَمِنَ له ضمانًا؛ فإن قام بأمره بالنُّصح والصدق والإخلاص والاجتهاد؛ قام الله سبحانه له بما ضمنه له من الرزق والكفاية والنصر وقضاء الحوائج؛ فإنه سبحانه ضَمِنَ الرزقَ لمن عبده، والنصرَ لمن توكل عليه واستنصر به، والكفايةَ لمن كان هو همَّه ومرادَه، والمغفرةَ لمن استغفرهُ، وقضاءَ الحوائج لمن صدقه في طلبها ووَثِقَ به وقوي رجاؤهُ وطمعُه في فضله وجودِهِ؛ فالفَطِنُ الكيِّسُ إنما يَهتمُّ بأمره وإقامته وتوفيقه لا بضمانه؛ فإنه الوفيُّ الصادقُ، ومن أوفى بعهده من الله؟! فمن علامات السعادة صرفُ اهتمامه إلى أمر الله دون ضمانه، ومن علامات الحرمان فراغُ قلبه من الاهتمام بأمره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه.
والله المستعانُ.


- فإنَّ الهداية لا نهاية لها، ولو بلغ العبدُ فيها ما بلغ؛

- ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلِّها الصدق، وأضدادُها من الرِّياء والعُجْب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبن والمهانة وغيرها أصلها الكذبُ؛ فكلُّ عمل صالح ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الصدق، وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطنٍ فمنشؤهُ الكذبُ.
والله تعالى يعاقب الكذابَ بأن يُقعِده ويُثبِّطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيِب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته؛ فما استُجِلبَتْ مصَالحُ الدُّنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدُهما ومضارُّهما بمثل الكذب.


- فصل
الصبرُ على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُهُ الشهوةُ؛ فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبةً، وإمّا أن تقطع لذَّةً أكملَ منها، وإما أن تُضيِّع وقتًا إضاعتُهُ حسرةٌ وندامةٌ، وإما أن تَثْلم عِرضًا توفيرُهُ أنفعُ للعبد من ثَلمِه، وإما أن تُذهِبَ مالًا بقاؤُهُ خيرٌ له من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامُهُ خيرٌ من وضعه، وإما أن تَسْلُب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيبُ من قضاء الشهوة، وإما أن تُطرِّق لوضيعٍ إليك طريقًا لم يكن يجدُها قبل ذلك، وإما أن تَجلِب همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقاربُ لذَّةَ الشهوة، وإمَّا أن تُنسِي علمًا ذِكرُه ألذُّ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمِّت عدوًّا وتُحزِن وليًّا، وإما أن تقطع الطريقَ على نعمةٍ مقبلةٍ، وإما أن تُحدِثَ عيبًا يبقى صفةً لا تزولُ؛ فإن الأعمال تُورِثُ الصفاتِ والأخلاقَ.

- وضابط هذا كُلِّه العدلُ، وهو الأخذُ بالوسطِ الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناءُ مصالح الدُّنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلَّا به؛ فإنه متى خرج بعضُ أخلاطِه عن العدل وجاوزه أو نقصَ عنه ذهبَ من صحته وقوته بحسب ذلك، وكذلك الأفعال الطبيعيةُ كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك؛ إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفتْ إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرتْ نقصًا.
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود، ولا سيما حدود المشروع المأمور والمنهي؛ فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود، حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخلٌ فيها. قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: ٩٧].
فأعدلُ الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفةً وفعلًا.
وبالله التوفيقُ.


- فصل
أصلُ الأخلاق المذمومة كلِّها الكِبرُ والمهانة والدَّناءةُ.
وأصلُ الأخلاق المحمودة كلِّها الخشوعُ وعلوُّ الهمَّة.

فالفخرُ والبطرُ والأشرُ والعُجْبُ والحسدُ والبغيُ والخُيَلاءُ والظُّلمُ والقسوةُ والتجبُّرُ والإعراضُ وإباءُ قبول النصيحة والاستئثارُ وطلبُ العلو وحب الجاه والرئاسة وأن يُحمَد بما لم يفعل وأمثالُ ذلك؛ كلُّها ناشئةٌ من الكبر.

وأمَّا الكذبُ والخِسَّةُ والخيانةُ والرِّياءُ والمكرُ والخديعةُ والطمع والفزعُ والجُبْنُ والبخلُ والعجزُ والكسلُ والذُّلُّ لغير الله واستبدالُ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ونحوُ ذلك؛ [فكلُّها] من المهانة والدَّناءة وصغر النفس.

وأمَّا الأخلاقُ الفاضلةُ؛ كالصبر والشجاعة والعدل والمروءة والعفَّة والصِّيانة والجود والحلم والعفو والصَّفْح والاحتمال والإيثار وعزَّة النفس عن الدَّناءات والتواضع والقناعة والصِّدق والإخلاص والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضلَ والتغافُل عن زلَّات الناس وترك الاشتغال بما لا يَعنِيه وسلامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك؛ فكلُّها ناشئةٌ عن الخُشوع وعلوِّ الهمة.

والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنَّها تكونُ خاشعةً، ثم يَنزِلُ عليها الماء، فتهتزُّ وتربو وتأخذُ زينتها وبهجتها؛ فكذلك المخلوق منها إذا أصابهُ حظُّه من التوفيق.

وأمَّا النارُ فطبعُها العلوُّ والإفسادُ، ثم تخمُدُ فتصيرُ أحقرَ شيءٍ وأذلَّهُ، وكذلك المخلوقُ منها؛ فهي دائمًا بين العلو إذا هاجت واضطربت، وبين الخِسَّة والدَّناءة إذا خَمَدتْ وسكنتْ.

والأخلاق المذمومةُ تابعةٌ للنار والمخلوق منها، والأخلاقُ الفاضلةُ تابعةٌ للأرض والمخلوق منها؛ فمن عَلتْ همَّتُهُ وخشَعتْ نفسُه اتَّصف بكل خلق جميل، ومن دَنَتْ همته وطغَتْ نفسه اتَّصف بكلِّ خلق رذيل.


- [فصل: من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]

• قال رجلٌ عنده: ما أُحِبُّ أن أكون من أصحاب اليمين، أُحِبُّ أن أكون من المقرَّبين! فقال عبد الله: لكن ها هنا رجلٌ ودَّ أنه إذا مات لم يُبْعَثْ. يعني نفسَه ، .. 
- والنساءُ حبائلُ الشيطان، .. 
- إنكم ترون الكافر من أصحِّ الناس جسمًا وأمرضهم قلبًا، وتَلْقَون المؤمنَ من أصح الناس قلبًا وأمرضهم جسمًا.

- لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلَّا إقامةُ المروءة، وصونُ العِرض، وحفظُ الجاه، وصيانةُ المال الذي جعله الله قِوامًا لمصالح الدنيا والآخرة، ومحبةُ الخلق، وجوازُ القول بينهم، وصلاحُ المعاش، وراحةُ البدن، وقوةُ القلب، وطيب النفس، ونعيم القلب، وانشراح الصدر، والأمن من مخاوف الفُسَّاق والفُجَّار، وقلةُ الهمّ والغمّ والحزن، وعزُّ النفس عن احتمال الذُّلِّ، وصونُ نور القلب أن تُطفئهُ ظلمةُ المعصية، وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار، وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ، وتيسير ما عَسُرَ على أرباب الفسوق والمعاصي، وتسهيل الطاعات عليه، وتيسير العلم، والثناء الحسن في الناس، وكثرة الدُّعاء له، والحلاوةُ التي يكتسبها وجهه، والمهابةُ التي تُلقى له في قلوب الناس، وانتصارُهم وحميتُهم له إذا أُوذي وظُلِم، وذبُّهم عن عِرْضِه إذا اغتابه مغتابٌ، وسرعة إجابة دعائه، وزوال الوحشة التي بينه وبين الله، وقُربُ الملائكة منه، وبعدُ شياطين الإنس والجنِّ منه، وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه، وخطبتهم لمودَّته وصحبته، وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربِّه ولقائه له ومصيره إليه، وصِغَرُ الدُّنيا في قلبه، وكِبَرُ الآخرة عنده، وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها، وذوقُ حلاوة الطاعة، ووجدُ حلاوة الإيمان، ودعاءُ حملة العرش ومن حوله من الملائكة له، وفرحُ الكاتبين به ودعاؤُهم له كلَّ وقتٍ، والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته، وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته، وهكذا يجازيه بفرح وسرورٍ لا نسبةَ له إلى فرحِه وسروره بالمعصية بوجهٍ من الوجوه. فهذه بعضُ آثار ترك المعاصي في الدُّنيا.
فإذا مات تلقَّتْهُ الملائكةُ بالبُشرى من ربِّه بالجنة، وبأنَّه لا خوف عليه ولا حُزْن، وينتقلُ من سجن الدُّنيا وضيقها إلى روضةٍ من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة.
فإذا كان يومُ القيامة كان الناسُ في الحرِّ والعرَقِ، وهو في ظلِّ العرش.
فإذا انصرفوا من بين يدي الله أخذَ به ذات اليمين مع أوليائه المتقين وحزبه المفلحين.
و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: ٢١].


- فإذا أراد الله بعبده خيرًا أشهده منتَه وتوفيقه وإعانتَه له في كل ما يقوله ويفعله، فلا يُعجَب به، ثم أشهده تقصيره فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه منه ويستغفره ويستحيي أن يطلب عليه أجرًا. وإذا لم يُشهِده ذلك، وغيَّبهُ عنه، فرأى نفسه في العمل، ورآه بعين الكمال والرضى، لم يقع ذلك العمل منه موقع القبول والرِّضى والمحبة.
فالعارفُ يعمل العمل لوجهه، مشاهدًا فيه منته وفضلهُ وتوفيقه، معتذرًا منه إليه، مستحييًا منه إذ لم يُوفِّه حقَّهُ. والجاهل يعمل العمل لحظِّه وهواهُ، ناظرًا فيه إلى نفسه، يمُنُّ به على ربِّه، راضيًا بعمله. فهذا لونٌ وذاك لونٌ آخرُ.



- الوصول إلى المطلوب موقوف على هَجْر العوائد وقطع العوائق [والعلائق]:
فالعوائدُ: السكونُ إلى الدَّعَةِ والراحة وما أَلِفهُ الناس واعتادوهُ من الرسوم والأوضاع، التي جعلوها بمنزلة الشرع المتَّبع، بل هي عندهم أعظم من الشرع؛ فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع، وربما كفّروه أو بدّعوه وضلَّلوه أو هجروه وعاقبوه لمخالفة تلك الرسوم، وأماتوا لها السُّنن، ونصبوها أندادًا للرسول يُوالون عليها ويُعادون؛ فالمعروفُ عندهم ما وافقها والمنكر ما خالفها.
وهذه الأوضاعُ والرسومُ قد استولتْ على طوائف بني آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفيَّة والفقراء والمطوِّعين والعامة؛ فرُبِّي فيها الصغير، ونشأ عليها الكبير، واتُّخِذت سننًا، بل هي أعظم عند أصحابها من السنن، الواقفُ معها محبوسٌ، والمتقيِّدُ بها منقطعٌ، عمَّ بها المُصابُ، وهُجِر لأجلها السنة والكتاب، من استنصر بها فهو عند الله مخذولٌ، ومن اقتَدى بها دون كتاب الله وسنَّةِ رسوله فهو عند الله غيرُ مقبول.
وهذا أعظم الحُجُب والموانع بين العبد وبين النفوذ إلى الله ورسوله.

- من علامات السعادة والفلاح: أن العبد كلما زِيدَ في علمه زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقصَ من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قُربه من الناس وقضاءِ حوائجهم والتواضع لهم.
وعلاماتُ الشقاوة: أنه كلما زيد في علمه زيد في كِبْره وتِيْهِه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنِّه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في مالِه زيد في بخله وإمساكِه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه.
وهذه الأمورُ ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يَبْتَلي بها عبادَه فيَسعَدُ بها أقوامٌ ويَشقى بها أقوامٌ. وكذلك الكراماتُ امتحانٌ وابتلاءٌ كالملك والسلطان والمال؛ قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: ٤٠].
فالنعم ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يظهر به شكر الشكور وكفر الكفور؛ كما أن المحن بلوى منه سبحانه؛ فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب.

- فصل
أركان الكفر أربعةٌ: الكبرُ، والحسد، والغضب، والشهوة؛ فالكبر يمنعه الانقيادَ، والحسد يمنعه قبولَ النصيحة وبذلها، والغضبُ يمنعه العدلَ، والشهوة تمنعه التفرُّغَ للعبادة.
فإذا انهدم ركنُ الكبر سَهُلَ عليه الانقياد، وإذا انهدم ركنُ الحسد سهل عليه قبول النصح وبذله، وإذا انهدم ركن الغضب سهل عليه العدل والتواضع، وإذا انهدم ركن الشهوة سهل عليه الصبرُ والعفافُ والعبادةُ.
وزوال الجبال عن أماكنها أيسر من زوال هذه الأربعة عمن بُلِي بها، ولا سيما إذا ارت هيئاتٍ راسخةً وملكاتٍ وصفاتٍ ثابتة؛ فإنه لا يستقيم له معها عملٌ البتة، ولا تزكو نفسه مع قيامها بها، وكلما اجتهد في العمل أفسدته عليه هذه الأربعة، وكل الآفات متولدةٌ منها، وإذا استحكمت في القلب؛ أرتْه الباطلَ في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل، والمعروفَ في صورة المنكر والمنكرَ في صورة المعروف، وقَرَّبتْ منه الدنيا وبعَّدتْ منه الآخرةَ.
وإذا تأملتَ كفرَ الأمم رأيتَه ناشئًا منها، وعليها يقع العذابُ، وتكون خفتُهُ وشدته بحسب خفتها وشدتها؛ فمن فتحَها على نفسه فتَحَ عليه أَبوابَ الشرور كلها عاجلًا وآجلًا، ومن أغلقَها على نفسه أغلقَ عنه أبوابَ الشرور؛ فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المسلمين والتواضع لله ولخلقه.
ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربِّه وجهله بنفسه؛ فإنه لو عرفَ ربَّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسَه بالنقائص والآفات؛ لم يتكبْر ولم يغضبْ لها ولم يحسُدْ أحدًا على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوعٌ من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويُحِبّ زوالَها عنه والله يكره ذلك؛ فهو مضادٌّ لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عدوَّه حقيقةً؛ لأنَّ ذنبه كان عن كبر وحسد.
فقلْعُ هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضى به وعنه والإنابة إليه.
وقَلْع الغضب بمعرفة النفس وأنها لا تَستحقُّ أن يغضب لها وينتقم لها؛ فإن ذلك إيثارٌ لها بالرضى والغضب على خالقها وفاطرها. وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يُعوِّدها أن تَغضَب له سبحانه وترضى له؛ فكلما دخلها شيءٌ من الغضب والرضى له خرجَ منها مقابله من الغضب والرِّضى لها، وكذا بالعكس.
أما الشهوةُ فدواؤها صحة العلم والمعرفة بأن إعطاءها شهواتِها أعظمُ أسباب حرمانها إياها ومنعها منها، وحِمْيتها أعظم أسباب اتصالها إليها؛ فكلما فتحتَ عليها بابَ الشهوات كنتَ ساعيًا في حرمانها إياها، وكلما أغلقتَ عنها ذلك الباب كنتَ ساعيًا في إيصالها إليها على أكمل الوجوه.
فالغضب مثل السَّبُع؛ إذا أفلتَه صاحبُه بدأ بأكله، والشهوة مثل النار، إذا أضرمها صاحبها بدأتْ بإحراقه، والكبر بمنزلة منازعة الملك ملكه؛ فإن لم يُهلِكْك طردَك عنه، والحسد بمنزلة معاداة من هو أقدر منك.
والذي يَغلِبُ شهوتَه وغضبَه يَفْرَقُ الشيطانُ من ظله، ومن تَغلِبه شهوتُه وغضبُه يَفرَقُ من خياله.

- قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: ١٢٤]؛ فذِكْره كلامه الذي أنزله على رسوله، والإعراض عنه ترك تدبره والعملِ به، والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير: أنها عذاب القبر. قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابنُ عباس ، وفيه حديث مرفوع ، وأصل الضنك في اللغة الضيق والشدة.

- المواساةُ للمؤمنين أنواعٌ: مواساةٌ بالمال، ومواساةٌ بالجاه، ومواساةٌ بالبدن والخدمة، ومواساةٌ بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساةٌ بالتوجع لهم.
وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة؛ فكلما ضَعُفَ الإيمان ضعفت المواساةُ، وكلما قوي قويتْ.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ النالس مواساةً لأصحابه بذلك كله؛ فلأتباعه من المواساة بحسب اتباعهم له.

- إذا عزم العبدُ على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضَتْ له الخوادع والقواطع، فينخدع أولًا بالشهوات والرئاسات والملاذِّ والمناكح والملابس. فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتُلِي بوطء عقبه وتقبيل يده والتوسعة له في المجلس والإشارة إليه بالدعاء ورجاء بركته ونحو ذلك. فإن وقف معه انقطعَ به عن الله وكان حظّه منه، وإن قطعهُ ولم يقفْ معه ابتُلِي بالكرامات والكشوفات. فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية وعزة الموحدة والفراغ من الدنيا. فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود، وإن لم يقف معه وسار ناظرًا إلى مراد الله منه وما يحبه منه؛ بحيث يكون عبده الموقوف على محابِّه ومراضيه أين كانت وكيف كانت؛ تعبَ بها أو استراح تنعَّم أو تألم، أخرجتْه إلى الناس أو عزلتْه عنهم، لا يختار لنفسه غيرَ ما يختاره له وليُّه وسيدُه، واقفٌ مع أمره ينفذه بحسب الإمكان، ونفسه عنده أهونُ عليه أن يُقدِّم راحتَها ولذَّتها على مرضاة سيده وأمرِه؛ فهذا هو العبد الذي قد وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده شيءٌ البتة. وبالله التوفيق.

- ويُحكى أن أعرابيًّا دخل على الرشيد، فقال: أمير المؤمنين! ثبَّتَ الله عليك النعمَ التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقَّق لك النعمَ التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرَّفك النعمَ التي أنت فيها ولا تَعرِفها لتشكرها. فأعجبه ذلك منه وقال: ما أحسنَ تقسيمَه!

- ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهلُ من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تَشغلَ نفسَك بالفكر فيما يَعنِيك دون ما لا يَعنِيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه... وإياك أن تُمكِّن الشيطانَ من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يُفسِدها عليك فسادًا يَصعُب تداركُه.

- • قال شقيق بن إبراهيم: أُغلِقَ بابُ التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها.

- وليس على العبد أضرُّ من مَلَلِه لنعم الله؛ فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها، بل يَسخَطها ويشكوها ويعدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه.

- • وقوله في الحديث: "إن الله جميل يُحِبُّ الجمال" يتناول جمال الثياب المسؤول عنه في نفس الحديث، ويدخل فيه بطريق العموم الجمال من كل شيء.
كما في الحديث الآخر: "إن الله نظيفٌ يحب النظافة" .

- فائدة
قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣)} [الأنبياء: ٨٣]: جمع في هذا الدعاء بين: حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملُّق له، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره.
ومتى وجدَ المبتلى هذا كُشِفتْ عنه بلواه.
وقد جُرِّبَ أنه من قالها سبع مراتٍ -ولا سيما مع هذه المعرفة- كشفَ الله ضرَّه

- العبد دائمًا متقلبٌ بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل؛ فهو محتاجٌ -بل مضطرٌّ- إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل؛ فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا، وإن قام بصُوَرها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقلَّ نصيبُه من اللطف في الباطن.
فإن قلت: وما اللطف الباطن؟
فهو ما يحصُلُ للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيَستخذِي بين يدي سيده ذليلًا له مستكينًا ناظرًا إليه بقلبه ساكنًا إليه بروحه وسِرِّه، وقد شَغَله مشاهدةُ لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيَّبه عن شهود ذلك معرفتُه بحسن اختياره له وأنه عبدٌ محضٌ يُجرِي عليه سيدُه أحكامَه رضي أو سخط؛ فإن رضي نال الرضى، وإن سخط فحظُّه السخط.
فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة؛ يزيد بزيادتها، وينقص بنقصانها.

- أنفع الناس لك رجل مكَّنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تَصنع إليه معروفًا؛ فإنه نِعمَ العونُ لك على منفعتك وكمالك؛ فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر.
وأضر الناس عليك من مكَّن نفسَه منك حتى تعصي الله فيه؛ فإنه عونٌ لك على مضرتك ونقصك.


- • لا تركَنْ إلى شيءٍ دوننا؛ فإنه وبالٌ عليك وقاتلٌ لك: إن ركنتَ إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنتَ إلى المعرفة نكَّرناها عليك، وإن ركنتَ إلى الوجد استدرجناك فيه، وإن ركنتَ إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنتَ إلى المخلوقين وكَلْناك إليهم، ارْضَنا لك ربًّا نرضاك لنا عبدًا.

- الشهقةُ التي تَعرِض عند سماع القرآن أو غيره لها أسبابٌ:
أحدُها: أن يَلُوح له عند السماع درجةٌ ليست له، فيرتاح إليها، فتَحدُث له الشهقةُ؛ فهذه شهقة شوق.
وثانيها: أن يَلُوح له ذنبٌ ارتكبه، فيشهَق خوفًا وحزنًا على نفسه، وهذه شهقة خشية.
وثالثها: أن يلوح له نقصٌ فيه لا يَقدِرُ على دفعه عنه، فيُحدِث له ذلك حزنًا، فيشهَق شهقة حزن.
ورابعها: أن يلوح له كمال محبوبه، ويرى الطريق إليه مسدودةً عنه، فيُحدِث ذلك شهقَة أسفٍ وحزنٍ.
وخامسها: أن يكون قد توارى عنه محبوبُهُ، واشتغل بغيره، فذكَّره السماعُ محبوبَه، فلاح له جماله، ورأى الباب مفتوحًا والطريق ظاهرةً، فشهق فرحًا وسرورًا بما لاح له.
وبكل حالٍ فسبب الشهقة قوةُ الوارد وضعف المحل عن الاحتمال، والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلًا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم؛ فإنه إذا أظهره ضعُفَ أثره وأوشك انقطاعه.
هذا حكم الشهقة من الصادق؛ فإن الشاهق إما صادقٌ وإما سارقٌ وإما منافقٌ.