- العَارِيَة سمِّيت بذلك؛ لأنها عارية عن العوض.
- من قال: إن العارية مضمونة بكل حال، قال: إن «مضمونة» صفة كاشفة ليست مقيدة، والصفة الكاشفة لا يخرج مفهومها عن الحكم، فكأنه قال: عارية، وكل عارية مضمونة، والذين قالوا: لا تضمن إلا بشرط، قالوا: إن الصفة «مضمونة» مقيِّدة وليست كاشفة، وإذا تعارض القولان هل الصفة مقيدة أو كاشفة؟ فالأصل أنها مقيدة؛ لأن الكاشفة لو حذفت لاستقام الكلام بدونها، والمقيدة لا يتم الكلام إلا بها، والأصل أن المذكور واجب الذكر، وعليه فتكون الصفة هنا مقيدة وهو الصحيح، فتكون دالة على أن العارية تضمن إن شرط ضمانها وإلا فلا.
- العارية تضمن بكل حال على كلام المؤلف والصحيح أن العارية لا تضمن إلا بواحد من أمور ثلاثة:
الأول: أن يتعدى.
الثاني: أن يفرط.
الثالث: أن يشترط الضمان.
وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى.
- كان الواجب أن يقول: (وتضمن العارية ببدلها يوم تلفت)؛ لأنه إذا قال: ببدلها فالبدل يشمل القيمة والمثل.
- والفرق بين المتقوم وبين المثلي: أن المثلي ضابطه عند الفقهاء (كل مكيل أو موزون ليس فيه صناعة مباحة، يصح السَّلَم فيه) وهذا الضابط يضيِّق المثليات تضييقاً بالغاً.
فقولهم: (كل مكيل أو موزون) يخرج به ما سواهما، مع أن الحيوان يمكن أن يكون مثلياً والمعدود يمكن أن يكون مثلياً، والمذروع يمكن أن يكون مثلياً، وما أشبه ذلك، لكن هم يخصونه بالمكيل والموزون.
وقولهم: (ليس فيه صناعة مباحة) فإن كان فيه صناعة مباحة فإنه يخرج عن كونه مثلياً، فالبر إذا طُبِخ وكان طعاماً خرج عن كونه مثلياً، مع أن أصله مكيل، وكذلك ـ أيضاً ـ الأواني ليست مثلية مع أن أصلها موزون.
وأما قولهم: (مباحة) فاحترازاً من الصناعة المحرمة؛ لأن الصناعة المحرمة وجودها كالعدم.
وأما قولهم: (يصح السلم فيه) فهذا ـ أيضاً ـ شدد التضييق، فهو احتراز مما كان مكيلاً أو موزوناً، لكنه يختلف ولا ينضبط بالصفة فإنه لا يكون مثلياً.
والصحيح أن المثلي ما كان له مثيل مطابق أو مقارب تقارباً كثيراً.
- لا يجوز أن يعير العين التي استعارها، بخلاف المستأجر، فإن له أن يعير، وله أن يؤجر بشرط أن لا يلحق العين المؤجَرة ضرر، أما المستعير فلا يعيرها، ولا حتى أباه وهل يؤجرها؟ لا، لا يؤجرها، وهذا من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا يملك أن يعيرها والعارية سنة وإحسان، فكونه ـ أيضاًـ لا يأذن بالانتفاع بها بأجرة أشد امتناعاً.لكن إذا علم المستعير أن المعير يأذن في مثل ذلك عادة، يعني ـ مثلاً ـ إنسان استعار إناءً من شخص ثم إن أباه احتاج إلى هذا الإناء لكثرة الضيوف عنده، وطلب من ابنه أن يعيره، قلنا: لا يجوز أن يعيره، لكن إذا علم أن المالك يأذن بل يفرح فهل له أن يفعل؟ نعم، له أن يفعل، وكل إنسان يعلم من صاحبه الرضا بتصرفه فلا حرج عليه أن يتصرف.
- قوله: «وإن أركب منقطعاً للثواب لم يضمن» هذه مسألة تشبه العارية وليست عارية، إنسان «أركب منقطعاً» يعني منقطعاً في الطريق، أركبه للثواب، وليس بأجرة، أركبه تبرعاً وتقرباً إلى الله ـ تعالى ـ بذلك، فهذا الذي أُركِب لو تلفت الدابة تحته لم يضمن، لأن الذي أركبه للثواب يده على راحلته، ويُتصور هذا فيما سبق من الأسفار، رجل راكب ناقته فوجد في الطريق شخصاً منقطعاً، فنزل عن راحلته وأركبه تقرباً إلى الله، ويده على راحلته، والمنقطع هو المنتفع، فعثرت البعير وانكسرت أو ماتت، فهل على هذا الراكب الذي يشبه المستعير ضمان؟الجواب: يقول المؤلف: لا؛ ووجه ذلك أن يد صاحبها عليها، لم تزل، فلا ضمان على هذا الراكب، وهذه إحدى المسائل التي لا تضمن فيها العارية.
المسألة الثانية: إذا تلفت فيما استعيرت له، فإنه لا ضمان فيها.
وهذه المسألة تؤيد القول بأن العارية لا تضمن إذا شرط نفي ضمانها؛ ووجه ذلك أنها إذا تلفت فيما استعملت له فلا ضمان؛ لأن صاحبها حين أعطاها هذا الرجل يستعملها، قد علم أنها سوف تتلف أو تنقص بهذا الاستعمال، فكذلك إذا شرط المستعير أن لا يضمنها فإنه لا شك أنه لا ضمان عليه، بل قلنا: إن الصواب أنه وإن لم يشترط أن لا ضمان عليه إذا تلفت بلا تعدٍّ ولا تفريط، فلا ضمان على المستعير؛ لأنه قبضها من صاحبها بإذن منه فيده يد أمانة.
المسألة الثالثة: إذا استعارها ممن لا ضمان عليه كما لو استعارها من المستأجر، فإذا كان المستأجر لا ضمان عليه وهو أصل فالفرع ـ الذي هو المستعير ـ من باب أولى.
المسألة الرابعة: إذا استعار شيئاً موقوفاً على عموم الناس، كرجل استعار كتباً موقوفة على طلبة العلم ـ وهو من طلبة العلم ـ
- ( وإذا قال: أجَّرتك، قال: بل أعرتني، أو بالعكس .. فقول المالك ) كل كلام المؤلف في هذه الخلافات فيما إذا لم يكن هناك بينة، أما إذا كان هناك بينة فالبينة قاضية على كل شيء.
- وبهذا نعرف أن الأحكام تتبعض، وهذه قاعدة فقهية، بمعنى أنه إذا وُجد ما يثبت أحدها من وجه دون الآخر، حكمنا بالوجه الثابت وتركنا الوجه الذي لم يثبت، وهذه قاعدة مفيدة تنفعك في مسائل عديدة، ونظير ذلك رجل ادعى على آخر أنه سرق منه مالاً من بيته وأتى بشاهد على ذلك رجل وامرأتين، فهذه الصورة تضمنت حكمين ضمان المال، وقطع اليد، الحد لا يثبت برجل وامرأتين، وإنما يثبت بشهادة رجلين، والمال يثبت بشهادة رجل وامرأتين، ففي هذه الحال نقول: يضمن السارق المال ولا تقطع يده، فهذه صورة واحدة تضمنت حكمين مختلفين لوجود مقتضي أحدهما دون الآخر، فتتبعض الأحكام.