مختارات من كتاب النبوات لابن تيمية رحمه الله
- وقد يجتمع كفار، ومسلمون، ومبتدعة، وفجار؛ فيؤيد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجن والشياطين، ولكن جنهم وشياطينهم أقرب إلى الإسلام؛ فيترجحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوات؛ كما يجري لكثير من المبتدعة، والفجار، مع الكفار؛ مثل ما يجري للأحمدية، وغيرهم، مع عباد المشركين البخشية قدام التتار، كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب إلى الإسلام.
وعند من هو أحق بالإسلام منهم لا تظهر خوارقهم، بل تظهر خوارق من هو أتم إيمانا منهم. وهذا يشبه رد أهل البدع على الكفار بما فيه بدعة؛ فإنهم وإن ضلوا من هذا الوجه، فهم خير من أولئك الكفار، لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضره هؤلاء، ومن كان حائرا نفعه هؤلاء.
- والإقرار بالملائكة، والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمم المكذبة: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة}؛ حتى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون. قال قوم نوح: {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة}، وقال: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون}.
(ثم قال رحمه الله بعد ذلك)
فذكر الملائكة، والجن عام في الأمم. وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما.
- وأيضا فقد قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، وقال: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}؛ فهذا يبين أن كل أمة قد جاءها رسول، فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل؟.
قلت: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن كثيرا من هؤلاء لم يعرفوا الرسل؛ كما قال: {ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم.
الثاني: أنه قال تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم}، فإذا كان الشيطان قد زين لهم أعمالهم، كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم، فلم يعرفوها.
- ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم؛ من قصة نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم؛ فيذكر وجود هؤلاء، وأن قوما صدقوهم، وقوما كذبوهم. ويبين حال من صدقهم، وحال من كذبهم؛ فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء، ويتبين وجود آثارهم في الأرض. فمن لم يكن رأى في بلده آثارهم، فليسر في الأرض، ولينظر آثارهم، وليسمع أخبارهم المتواترة. يقول الله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}.
- ولهذا لا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين، واليهود، والنصارى، إلا رجحت دين الإسلام؛ كما يجري لأنواع الأمم التي لا كتاب لها.
- وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل.
وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك.
- وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله تعالى عليه بردا وسلاما، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية.
- ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم دينا غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح.
وأما عاد: فذكر عنهم التجبر، وعمارة الدنيا.
وقوم صالح: ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين، لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد، وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة.
وأما أهل مدين: فذكر عنهم الظلم في الأموال، مع الشرك؛ {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}.
- وقد يقول المعير للرجل: مالك أصل ولا فصل، والإنسان أصله التراب، وفصله الماء المهين.
- وكذلك مسمى العقل؛ فإن مسمى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية. لكن لما أحدث قوم من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة - بل وهو في نفس الأمر مخالف للمعقول، وصاروا يسمون ذلك عقليات، وأصول دين، وكلاما في أصول الدين، صار من عرف أنهم مبتدعة ضلال في ذلك ينفرعن جنس المعقول، والرأي، والقياس، والكلام، والجدل. فإذا رأى من يتكلم بهذا الجنس اعتقده مبتدعا مبطلا؛
وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم.
كما أن هؤلاء لما رأوا أن جنس المنتسبين إلى السنة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول، وهم يقولون إن السنة جاءت بذلك، صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يستدل في الأصول بالشرع والسنة ويسمونهم حشوية وعامة. وكل من هؤلاء، وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم.
[ثم هؤلاء قبلوا من مسمى الشرع والسنة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمى العقل محموده ومذمومه]. وأولئك قبلوا مسمى العقل عندهم محموده، ومذمومه، [وخالفوا مسمى الشرع محموده ومذمومه].
- كما قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}؛ فتقديم المفعول يدل على أنها لا تطمئن إلا بذكره، [و] هو تعالى إذا ذكر وجلت، فحصل لها اضطراب ووجل لما [تخافه] من [دونه]، و [تخشاه] من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة.
وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن عبد [إلا] ذنبه))؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب [من] العبد، وإلا فذكر الرب نفسه يحصل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف".
ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، بل قال: {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، ثم قال: {وإذا تليت عليهم آياته زأدتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون}. وإنما يتوكلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنه سبحانه حسب من توكل عليه؛ يهديه، وينصره ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكل [عليه] يتضمن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عما سواه.
وكذلك قال في الآية الأخرى: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، فهم مخبتون. والمخبت: المطمئن الخاضع لله. والأرض [الخبت]: [المطمئنة].
روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح: {وبشر المخبتين}، قال: المطمئنين. وعن الضحاك: المتواضعين؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقه، والتعدي لحده؛ فهو كالزبد مع ما ينفع الناس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
فالخوف مطلوب لغيره، ليدعو النفس إلى فعل الواجب، وترك المحرم. وأما الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنة، فيلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس.
- قال صلى الله عليه وسلم: (وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها). وهذا البأس نوعان؛ أحدهما: الفتن التي تجري عليهم. والفتنة ترد على القلوب، فلا [تعرف] الحق، ولا [تقصده] ؛ فيؤذي بعضهم بعضا بالأقوال والأعمال. والثاني: أن يعتدي أهل الباطل منهم على أهل الحق منهم، فيكون ذلك محنة في حقهم، يكفر الله بها سيئاتهم، ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم، بل تكون العاقبة للتقوى، ويكونون من أولياء الله المتقين.
- وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم النّاس أنّها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ [عَلَيْكُمْ] مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قوْمِ نوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ} ، وقال شعيب: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَاب قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.
- ولأهل الكلام والرأي من دعوى [الإجماعات] التي ليست صحيحة، بل قد يكون فيها نزاع معروف، وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادعوا فيه الإجماع ما يطول ذكره هنا.
- والقرآن ممّا يعلم الناس؛ عربهم، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ، مع حرص العرب، وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية. وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية. كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم.
- فالنبيّ الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبيّ الأول، وقد وصل إليه من جهته، لم يكن آية له؛ فإنّ العلماء يشاركونه في هذا. وأما إذا أخبر بقدرٍ زائدٍ لم يوجد في خبر الأول، أو كان ممّن لم يصل إليه خبر نبيّ غيره، كان ذلك آية له؛ كما يوجد في نبوّة أشعيا، وداود، وغيرهما من صفات النبيّ ما لا يوجد مثله في توراة موسى.
- لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنّ علياً بن أبي طالب [رضي الله عنه] كان أولى بالحق، وأنّ ترك القتال بالكلية كان خيراً وأولى؛ ففي الصحيحين عن أبي سعيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من الإسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وقد ثبت عنه أنّه جعل القاعد فيها خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي، وأنّه أثنى على من صالح، ولم يُثن على من قاتل؛ ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيِّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين"؛ فأثنى على الحسن في إصلاح الله به بين الفئتين. وفي صحيح مسلم، وبعض نسخ البخاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم [قال] لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية".
- وفي الصحيحين أيضاً أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"؛ قال معاذ: وهم بالشام. وفي صحيح مسلم عنه أنّه قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم". أهل المغرب هم أهل الشام قال أحمد بن حنبل، وغيره: أهل المغرب: أهل الشام؛ أي أنّها أول المغرب؛ فإن التغريب [والتشريق] أمر نسبيّ؛ فلكل بلد غرب وشرق، وهو صلى الله عليه وسلم تكلّم بمدينته؛ فما تغرب عنها فهو غرب، وما تشرق عنها فهو شرق.
- ولهذا تُسمّى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتناً؛ كما سمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم. والملاحم: ما كان بين المسلمين والكفار.
- والذين يسبون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] ، فيهم [تزندق] ؛ كالإسماعيلية، والنصيرية؛ فهؤلاء يستحقون القتل بالإتفاق. وفيهم من يعتقد [نبوّة] النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالإمامية؛ فهؤلاء في قتلهم نزاعٌ، وتفصيلٌ مذكورٌ في غير هذا الموضع.»
- لكن هذا الكسب؛ يقول أكثر الناس: إنّه لا يعقل فرقٌ بين الفعل الذي نفاه، والكسب الذي أثبته. وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: [طفرة] النظّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.
- وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين؛ فنسمّيه فاسقاً، لا مسلماً، ولا كافراً، ونقول: إنّه مخلّد في النار. وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة، وإلا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم.
- والهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان. فلهذا قال أولاً: {هُدىً لِلنَّاسِ} ، ثم قال: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ؛ فالبينات: الأدلة على ما تقدم من الهدى؛ وهي بينات من الهدى، الذي هو دليل على أنّ الأول هدى، ومن الفرقان الذي يُفرّق بين البيّنات والشبهات، والحجج الصحيحة والفاسدة. فالهدى: مثل أن يُؤمر بسلوك الطريق إلى الله؛ كما يُؤمر قاصد الحج [بسلوك] طريق مكّة مع دليل يوصله. والبيّنات: ما يدلّ، ويُبيّن أنّ ذلك هو الطريق، وأنّ سالكه سالك للطريق لا ضالّ. والفرقان: أن يُفرّق بين ذاك الطريق وغيره، وبين الدليل الذي يسلكه ويدلّ الناس عليه، وبين غيرهم ممّن يدّعي الدلالة، وهو جاهل مضلّ.
- في مصنف يتضمن شرح عقيدة صنفها شيخ النظّار بمصر: شمس الدين الأصبهاني. فطُلِبَ مني شرحها فشرحتها، وذكرت فيها من الدلائل العقلية ما يعلم به أصول الدين.
وبعدها جاء كتاب من النصارى يتضمّن الاحتجاج لدينهم.
- وإنّما أنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، وخلص [ببني] إسرائيل، فاحتاجوا إلى شريعة يعملون بها؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى}.
- ولهذا كان أصحّ القولين: أن جنة آدم جنّة التكليف، لم تكن في السماء؛ فإنّ إبليس دخل إلى جنة التكليف؛ جنة آدم بعد [إهباطه] من السماء، وقول الله له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيم وَ [إِنَّ] علَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين} ، وقوله تعالى: { [اخْرُجْ] مِنْهَا [مَذْءُومَاً] مَدْحُورَاً} ، لكن كانت في مكان عال في الأرض من ناحية [المشرق] ، ثمّ لما أكل من الشجرة، أُهبط منها إلى الأرض؛ كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
- كما قال الله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى} ؛ فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيّه محمّد: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} ، فالآيات الكبرى مختصة بهم. (بالأنبياء)
- وقد يُخبر بها بعض الناس سراً؛ لمن يعلمه كيف يتوب؟ ويستفتيه، ويستشيره فيما يفعل؟ فعلى ذلك المفتي والمشير أن يكتم عليه ذلك، ولا يشيع الفاحشة.
- والذي يدل عليه القرآن: أنّ كل من تكلّم بلا علم، فأخطا، فهو كاذب .. وكذلك الذي يدلّ عليه الشرع: أنّ كلّ من أخبر بخبر ليس له أن يُخبر به، وهو غير مطابق، فإنّه يُسمّى كاذباً.
- وأما السيما: فهي علامة بنفسها، لم يقصدها؛ مثل سيما المؤمنين، وسيما المنافقين؛ قال تعالى في المؤمنين: {سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، وقال في المنافقين: { [فَلَعَرَفْتَهُمْ] بِسِيمَاهُمْ}.
- يُروى: "هذا وضوئي ووضوء النبيّين من قبلي": ضعيفٌ، بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس؛ فإنّ الأنبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت؛ كما قال: "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك".
- لكن الشياطين تظهر عند كل قوم بما لا ينكرونه؛ فإذا كان القوم كفاراً لا ينكرون السحر والكهانة؛ كما كانت العرب؛ وكالهند، والترك، والمشركين، ظهروا بهذا الوصف؛ لأن هذا معظّمٌ عند تلك الأمة، وإن كان هذا مذموماً عند أولئك، كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل؛ من المسلمين، واليهود، والنصارى، أظهرته الشياطين فيمن يُظهر العبادة، ولا يكون مخلصاً لله في عبادته متبعاً للأنبياء، بل يكون فيه شركٌ، ونفاقٌ، وبدعةٌ.
- والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن، أولى من التعبير عنها بغيرها؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع.
- ولفظ الإنباء: يتضمَّن معنى الإعلام والإخبار، لكنّه في عامّة موارد استعماله أخصّ من مطلق الإخبار؛ فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة، دون المشاهدة المشتركة.
- فإنّ الأدلة النظرية لا بُدّ أن [تنتهي] إلى مقدمات [ضرورية] وقوله: {لأغلبنّ} : قَسَمٌ أقسم الله عليه، فهو جواب قسم، تقديره: والله لأغلبنّ أنا ورسلي.
- واختلفوا: هل يكون في الجن رسل؟ والأكثرون على أنّه لا رسل فيهم.
-[و] أكثر الانتفاع بكلام هؤلاء (المخالفين من المتكلمين ونحوهم)، هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها.
- فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض، هي كثيرة جداً، وهذا يعرفه من جرَّب عادات الناس.
- فهؤلاء الشياطين إذا كانوا مع جنسهم، الذين لا يهابونهم، فعلوا هذه الأمور. وأما إذا كانوا عند أهل [إيمان] وتوحيد، وفي بيوت الله التي يُذكر فيها اسمه، لم [يجترئوا] على ذلك، بل يخافون الرجل الصالح أعظم ممّا [يخافه] فُجّار الإنس
- والجن [كالإنس] ، فيهم المؤمن المطيع، والمسلم الجاهل، أو المنافق، أو العاصي، وفيهم الكافر. وكلّ ضرب يميل إلى بني جنسه
- فكثيرٌ من الناس قتلته الجنّ. كما يصرعونهم، والصرع لأجل الزنا، وتارة يقولون إنه آذاهم؛ إما [بصبّ نجاسة] عليهم، وإما بغير ذلك؛ فيصرعونه صرع عقوبة وانتقام.
وتارة يفعلون ذلك عبثاً؛ كما [يعبث] شياطين الإنس بالناس.
والجنُّ أعظم شيطنة، وأقلّ عقلاً، وأكثر جهلاً.
- وتعترف الجن والإنس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم [أنهم] لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن، ويقولون: أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما [تظهر] عند الكفار والفجار؛ وهذا لأنّ أولئك أولياء الشياطين، ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين، ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانيّة.
- كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف؛ إذ كانوا فيه يُسلسلون4، لكن لم يبطل فعلهم بالكلية، بل ضَعُف، فشرّهم فيه على أهل الصوم قليل.
- فإنّ الشياطين هنالك مَحَالُّهم، وهم يحبون الظلمة، ويكرهون النور، ولهذا ينتشرون بالليل؛ كما جاء في الحديث الصحيح، ولهذا أمر الله بالتعوّذ من شرّ غاسق إذا وقب.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الغاسق قد فسر بالليل، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة.... والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار؛ من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش، وغير ذلك. فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر ويدعونه، والقمر وعبادته. وأبو معشر البلخي له مصحف القمر يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه". دقائق التفسير 6497. من كلام محقق الكتاب.
- كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُون} ، وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم، ويفعل ما يرونه غير نافع، ويترك ما يرونه نافعاً. وهذا فعل المجنون؛ فإن المجنون فاسد العلم والقصد. ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا، كان عنده من ترك ذلك، وطلب ما لا يعلمه: مجنوناً. ثمّ النبيّ مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس؛ من إعلام بالغيوب، وأمور خارقة لعاداتهم؛ فيقولون: هو ساحر.
- وهذا مذكورٌ عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا. ولفظ التوراة: قد يُراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الإنجيل؛ فيقال: التوراة، والإنجيل. ويُراد بالتوراة: الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الأنبياء المتبعين لكتاب موسى، قد يُسَمَّى هذا كله توراة؛ فإن التوراة تفسر الشريعة؛ فكلّ من دان بشريعة التوراة: قيل لنبوته: إنَّها من التوراة.
وكثيرٌ مما يعزوه كعب الأحبار ونحوه إلى التوراة، هو من هذا الباب، لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى؛ كلفظ الشريعة عند المسلمين: يتناول القرآن، والأحاديث النبوية، وما استخرج من ذلك؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر.
- والمقصود هنا: أنّ الأنبياء يفتحون الأعين العمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغلف. والسحرةُ يفسدون السمع والبصر والعقل، حتى يخيّل للإنسان الأشياء بخلاف ما هي عليه، فيتغير حسه وعقله. قال في قصة موسى: {سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرْهَبُوهُم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم}. وهذا يقتضي أنّ أعين الناس قد حصل فيها تغيُّر. ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِن السَّمَاءِ فَظَلُّوا فيهِ يَعرجُون لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَت أَبْصَارُنَا بَل نَحْنُ قَومٌ مَسْحُورُون} ، فقد علموا أن السحر يغير الإحساس، كما يوجب المرض والقتل. وهذا كلّه من جنس مقدور الإنس؛ فإن الإنسان يقدر [أن] يفعل [في] غيره ما يفسد إدراكه، وما يمرضه ويقتله. فهذا مع كونه ظلماً وشراً، هو من جنس مقدور البشر.
- وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع، ويقول: إنه الخضر، فاعتقد أنه الخضر، وإنما كان جنيّاً من الجن. ولهذا لم يجترىء الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة: إنّه الخضر، ولا قال أحد من الصحابة: إني رأيت الخضر. وإنما وقع هذا بعد الصحابة. وكلما تأخّر الأمر كثر، حتى إنه يأتي اليهود والنصارى، ويقول: إنه الخضر.
ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر.
وكثيرٌ من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر.
والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا.
ولهذا يقول من يقول منهم: لكل ولي خضر. وإنّما هو جني معه.
- والتأييد بحسب الإيمان، فمن كان أقوى من غيره، كان جنده من الملائكة أقوى، وإن كان إيمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك؛ كمَلَك الإنسان وشيطانه، فإذا كانت حسنات الإنسان أقوى، أُيِّدَ بالملائكة تأييداً يقهر به الشيطان، وإن كانت سيئاته أقوى، كان جند الشيطان معه أقوى. وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر؛ فشيطان المؤمن مهزول ضعيف، وشيطان الكافر سمين قوي. فكما أن الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على مَلَكه، وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه، فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر؛ لأنّ الآخر لم يؤيد مَلَكَه، فلم يؤيده، أو [ضعف] عنه؛ لأنّه ليس معه إيمان [يعينه] ؛ كالرجل الصالح إذا كان ابنه فاجراً، لم يمكنه الدفع عنه لفجوره. وبسط هذه الأمور له موضع آخر.
- فكلّ من خالف طريق الأنبياء، لا بُدّ له من الكذب والظلم؛ إما عمداً، وإما جهلاً.... إذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من غير اجتهاد يُعذر به، فهو كذّاب.
- فإن الله سبحانه لا يُخلي الصادق ممّا يدلّ على صدقه، ولا يُخلي الكاذب ممّا يدلّ على كذبه؛ إذ من نعته ما أخبر به في [قوله]: {أَمْ يَقُولُونَ افْترَى على اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَأ اللهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ}. ثم قال خبراً مبتدياً: {وَيَمْحُو اللهُ الباطلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}؛ فهو سبحانه لا بُدّ أن يمحق الباطل، ويُحقّ الحق بكلماته.
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ والأرْضَ وما بينهُما لاعِبِينَ لو أرَدْنا أَن نتخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِن لَدُنَّا إن كُنَّا فاعِلِينَ بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زَاهِق ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
كما أخبر في موضع أنّه لم يخلق الخلق عبثاً ولا سُدى، وإنّما خلقهم بالحق وللحق، فلا بُدّ أن يجزي هؤلاء وهؤلاء بإظهار صدق هؤلاء، وإظهار كذب هؤلاء؛ كما قال: {بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هوَ زَاهِق}.