الاثنين، 4 أغسطس 2025

مختارات من كتاب النبوات لابن تيمية رحمه الله

مختارات من كتاب النبوات لابن تيمية رحمه الله


- وقد يجتمع كفار، ومسلمون، ومبتدعة، وفجار؛ فيؤيد هؤلاء بخوارق تعينهم عليها الجن والشياطين، ولكن جنهم وشياطينهم أقرب إلى الإسلام؛ فيترجحون بها على أولئك الكفار عند من لا يعرف النبوات؛ كما يجري لكثير من المبتدعة، والفجار، مع الكفار؛ مثل ما يجري للأحمدية، وغيرهم، مع عباد المشركين البخشية قدام التتار، كانت خوارق هؤلاء أقوى لكونهم كانوا أقرب إلى الإسلام.
وعند من هو أحق بالإسلام منهم لا تظهر خوارقهم، بل تظهر خوارق من هو أتم إيمانا منهم. وهذا يشبه رد أهل البدع على الكفار بما فيه بدعة؛ فإنهم وإن ضلوا من هذا الوجه، فهم خير من أولئك الكفار، لكن من أراد أن يسلك إلى الله على ما جاء به الرسول يضره هؤلاء، ومن كان حائرا نفعه هؤلاء.


- والإقرار بالملائكة، والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمم المكذبة: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة}؛ حتى قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون. قال قوم نوح: {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة}، وقال: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون}.

(ثم قال رحمه الله بعد ذلك)

فذكر الملائكة، والجن عام في الأمم. وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكارا عاما.


- وأيضا فقد قال الله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، وقال: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}؛ فهذا يبين أن كل أمة قد جاءها رسول، فكيف لم يعرف هؤلاء الرسل؟.
قلت: عن هذا جوابان:
أحدهما: أن كثيرا من هؤلاء لم يعرفوا الرسل؛ كما قال: {ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، فلم تبق أخبار الرسول وأقواله معروفة عندهم.
الثاني: أنه قال تعالى: {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم}، فإذا كان الشيطان قد زين لهم أعمالهم، كان في هؤلاء من درست أخبار الأنبياء عندهم، فلم يعرفوها.


- ولهذا إنما يقرر الرب تعالى في القرآن أمر النبوة وإثبات جنسها بما وقع في العالم؛ من قصة نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وشعيب، ولوط، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم؛ فيذكر وجود هؤلاء، وأن قوما صدقوهم، وقوما كذبوهم. ويبين حال من صدقهم، وحال من كذبهم؛ فيعلم بالاضطرار حينئذ ثبوت هؤلاء، ويتبين وجود آثارهم في الأرض. فمن لم يكن رأى في بلده آثارهم، فليسر في الأرض، ولينظر آثارهم، وليسمع أخبارهم المتواترة. يقول الله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}.


- ولهذا لا تكاد توجد أمة لا كتاب لها يعرض عليها دين المسلمين، واليهود، والنصارى، إلا رجحت دين الإسلام؛ كما يجري لأنواع الأمم التي لا كتاب لها.


- وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل.
وهكذا محمد مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك.


- وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله تعالى عليه بردا وسلاما، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية.


- ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم دينا غير الشرك، وكذلك عن قوم نوح.
وأما عاد: فذكر عنهم التجبر، وعمارة الدنيا.
وقوم صالح: ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الدين، لم يذكر عنهم من التجبر ما ذكر عن عاد، وإنما أهلكهم لما عقروا الناقة.
وأما أهل مدين: فذكر عنهم الظلم في الأموال، مع الشرك؛ {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}.


- وقد يقول المعير للرجل: مالك أصل ولا فصل، والإنسان أصله التراب، وفصله الماء المهين.


- وكذلك مسمى العقل؛ فإن مسمى العقل قد مدحه الله في القرآن في غير آية. لكن لما أحدث قوم من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة - بل وهو في نفس الأمر مخالف للمعقول، وصاروا يسمون ذلك عقليات، وأصول دين، وكلاما في أصول الدين، صار من عرف أنهم مبتدعة ضلال في ذلك ينفرعن جنس المعقول، والرأي، والقياس، والكلام، والجدل. فإذا رأى من يتكلم بهذا الجنس اعتقده مبتدعا مبطلا؛
وهؤلاء وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل ما هو محمود وما هو مذموم.
كما أن هؤلاء لما رأوا أن جنس المنتسبين إلى السنة والشرع والحديث قد أخطأوا في مواضع، وخالفوا فيها صريح المعقول، وهم يقولون إن السنة جاءت بذلك، صار هؤلاء ينفرون عن جنس ما يستدل في الأصول بالشرع والسنة ويسمونهم حشوية وعامة. وكل من هؤلاء، وهؤلاء أدخلوا في مسمى الشرع والعقل والسمع ما هو محمود ومذموم.
[ثم هؤلاء قبلوا من مسمى الشرع والسنة عندهم محموده ومذمومه، وخالفوا مسمى العقل محموده ومذمومه]. وأولئك قبلوا مسمى العقل عندهم محموده، ومذمومه، [وخالفوا مسمى الشرع محموده ومذمومه].


- كما قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}؛ فتقديم المفعول يدل على أنها لا تطمئن إلا بذكره، [و] هو تعالى إذا ذكر وجلت، فحصل لها اضطراب ووجل لما [تخافه] من [دونه]، و [تخشاه] من فوات نصيبها منه. فالوجل إذا ذكر حاصل بسبب من الإنسان، وإلا فنفس ذكر الله يوجب الطمأنينة.
وقال علي رضي الله عنه: "لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن عبد [إلا] ذنبه))؛ فالخوف الذي يحصل عند ذكره، هو بسبب [من] العبد، وإلا فذكر الرب نفسه يحصل الطمأنينة والأمن؛ فما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ كما قال ذلك المريض الذي سئل: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي. فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف".
ولم يقل بذكر الله توجل القلوب، كما قال: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}، بل قال: {إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}، ثم قال: {وإذا تليت عليهم آياته زأدتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون}. وإنما يتوكلون عليه لطمأنينتهم إلى كفايته، وأنه سبحانه حسب من توكل عليه؛ يهديه، وينصره ويرزقه بفضله، ورحمته، وجوده. فالتوكل [عليه] يتضمن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عما سواه.
وكذلك قال في الآية الأخرى: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، فهم مخبتون. والمخبت: المطمئن الخاضع لله. والأرض [الخبت]: [المطمئنة].
روى ابن أبي حاتم من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح: {وبشر المخبتين}، قال: المطمئنين. وعن الضحاك: المتواضعين؛ فوصفهم بالطمأنينة مع الوجل، كما وصفهم هناك بالتوكل عليه مع الوجل، وكما قال في وصف القرآن: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله؛ فذكره بالذات يوجب الطمأنينة، وإنما الاقشعرار والوجل عارض بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقه، والتعدي لحده؛ فهو كالزبد مع ما ينفع الناس: الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
فالخوف مطلوب لغيره، ليدعو النفس إلى فعل الواجب، وترك المحرم. وأما الطمأنينة بذكره، وفرح القلب به، ومحبته، فمطلوب لذاته. ولهذا يبقى معهم هذا في الجنة، فيلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس.


- قال صلى الله عليه وسلم: (وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها). وهذا البأس نوعان؛ أحدهما: الفتن التي تجري عليهم. والفتنة ترد على القلوب، فلا [تعرف] الحق، ولا [تقصده] ؛ فيؤذي بعضهم بعضا بالأقوال والأعمال. والثاني: أن يعتدي أهل الباطل منهم على أهل الحق منهم، فيكون ذلك محنة في حقهم، يكفر الله بها سيئاتهم، ويرفع بالصبر عليها درجاتهم، وبصبرهم وتقواهم لا يضرهم كيد الظالمين لهم، بل تكون العاقبة للتقوى، ويكونون من أولياء الله المتقين.


- وهذه الأخبار كانت منتشرة متواترة في العالم، وقد علم النّاس أنّها آيات للأنبياء، وعقوبة لمكذبيهم، ولهذا كانوا يذكرونها عند نظائرها للاعتبار؛ كما قال ‌مؤمن ‌آل ‌فرعون: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ [عَلَيْكُمْ] مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قوْمِ نوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمَاً لِلْعِبَادِ} ، وقال شعيب: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَاب قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}.


- ولأهل الكلام والرأي من دعوى [الإجماعات] التي ليست صحيحة، بل قد يكون فيها نزاع معروف، وقد يكون إجماع السلف على خلاف ما ادعوا فيه الإجماع ما يطول ذكره هنا.


- والقرآن ممّا يعلم الناس؛ عربهم، وعجمهم أنّه لم يُوجد له نظيرٌ، مع حرص العرب، وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية. وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية. كلّ ذلك لا يوجد له نظيرٌ في العالم.


- فالنبيّ الثاني إذا كان قد أخبر بما هو موجود في كتاب النبيّ الأول، وقد وصل إليه من جهته، لم يكن آية له؛ فإنّ العلماء يشاركونه في هذا. وأما إذا أخبر بقدرٍ زائدٍ لم يوجد في خبر الأول، أو كان ممّن لم يصل إليه خبر نبيّ غيره، كان ذلك آية له؛ كما يوجد في نبوّة أشعيا، ‌وداود، وغيرهما من صفات النبيّ ما لا يوجد مثله في توراة موسى.


- لكن الذي دلت عليه السنة الصحيحة أنّ علياً بن أبي طالب [رضي الله عنه] كان أولى بالحق، وأنّ ترك القتال بالكلية كان خيراً وأولى؛ ففي الصحيحين عن أبي سعيد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من الإسلام يقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وقد ثبت عنه أنّه جعل القاعد فيها خيراً من القائم، والقائم خيراً من الماشي، والماشي خيراً من الساعي، وأنّه أثنى على من صالح، ولم يُثن على من قاتل؛ ففي البخاري وغيره عن أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: "إن ابني هذا سيِّدٌ، وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين"؛ فأثنى على الحسن في إصلاح الله به بين الفئتين. وفي صحيح مسلم، وبعض نسخ البخاري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم [قال] لعمّار: "تقتلك الفئة الباغية".


- وفي الصحيحين أيضاً أنّه قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة"؛ قال معاذ: وهم بالشام. وفي صحيح مسلم عنه أنّه قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خذلهم". أهل المغرب هم أهل الشام قال أحمد بن حنبل، وغيره: أهل المغرب: أهل الشام؛ أي أنّها أول المغرب؛ فإن التغريب [والتشريق] أمر نسبيّ؛ فلكل بلد غرب وشرق، وهو صلى الله عليه وسلم تكلّم بمدينته؛ فما تغرب عنها فهو غرب، وما تشرق عنها فهو شرق.


- ولهذا تُسمّى هذه وأمثالها من الحروب بين المسلمين فتناً؛ كما سمّاها النبيّ صلى الله عليه وسلم. والملاحم: ما كان بين المسلمين والكفار.


- والذين يسبون أبا بكر وعمر [رضي الله عنهما] ، فيهم [تزندق] ؛ كالإسماعيلية، والنصيرية؛ فهؤلاء ‌يستحقون ‌القتل بالإتفاق. وفيهم من يعتقد [نبوّة] النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالإمامية؛ فهؤلاء في قتلهم نزاعٌ، وتفصيلٌ مذكورٌ في غير هذا الموضع.»


- لكن هذا الكسب؛ يقول أكثر الناس: إنّه لا يعقل فرقٌ بين الفعل الذي نفاه، ‌والكسب ‌الذي ‌أثبته. وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة: [طفرة] النظّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.


- وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين؛ فنسمّيه فاسقاً، لا مسلماً، ولا كافراً، ونقول: إنّه مخلّد في النار. وهذا هو الذي ‌امتازت ‌به ‌المعتزلة، وإلا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم.


- والهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان. فلهذا قال أولاً: {هُدىً لِلنَّاسِ} ، ثم قال: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ؛ فالبينات: الأدلة على ما تقدم من الهدى؛ وهي بينات من الهدى، الذي هو دليل على أنّ الأول هدى، ومن الفرقان الذي يُفرّق بين البيّنات والشبهات، والحجج الصحيحة والفاسدة. فالهدى: مثل أن يُؤمر بسلوك الطريق إلى الله؛ كما يُؤمر قاصد الحج [بسلوك] طريق مكّة مع دليل يوصله. والبيّنات: ما يدلّ، ويُبيّن أنّ ذلك هو الطريق، وأنّ سالكه سالك للطريق لا ضالّ. والفرقان: أن يُفرّق بين ذاك الطريق وغيره، وبين الدليل الذي يسلكه ويدلّ الناس عليه، وبين غيرهم ممّن يدّعي الدلالة، وهو جاهل مضلّ.


- في مصنف يتضمن شرح عقيدة صنفها شيخ النظّار بمصر: شمس الدين الأصبهاني. فطُلِبَ مني شرحها فشرحتها، وذكرت فيها من الدلائل العقلية ما يعلم به أصول الدين.
وبعدها جاء كتاب من النصارى يتضمّن الاحتجاج لدينهم.


- وإنّما أنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، وخلص [ببني] إسرائيل، فاحتاجوا إلى شريعة يعملون بها؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى}.


- ولهذا كان أصحّ القولين: أن جنة آدم جنّة التكليف، لم تكن في السماء؛ فإنّ إبليس دخل إلى جنة التكليف؛ جنة آدم بعد [إهباطه] من السماء، وقول الله له: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيم وَ [إِنَّ] علَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين} ، وقوله تعالى: { [اخْرُجْ] مِنْهَا [مَذْءُومَاً] مَدْحُورَاً} ، لكن كانت في مكان عال في الأرض من ناحية [المشرق] ، ثمّ لما أكل من الشجرة، أُهبط منها إلى الأرض؛ كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.


- كما قال الله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى} ؛ فلله تعالى آية كبيرة وصغيرة، وقال عن نبيّه محمّد: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} ، فالآيات الكبرى مختصة بهم. (بالأنبياء)


- وقد يُخبر بها بعض الناس سراً؛ لمن يعلمه كيف يتوب؟ ويستفتيه، ويستشيره فيما يفعل؟ فعلى ذلك المفتي والمشير أن يكتم عليه ذلك، ولا يشيع الفاحشة.


- والذي يدل عليه القرآن: أنّ كل من تكلّم بلا علم، فأخطا، فهو كاذب .. وكذلك الذي يدلّ عليه الشرع: أنّ كلّ من أخبر بخبر ليس له أن يُخبر به، وهو غير مطابق، فإنّه يُسمّى كاذباً.


- وأما السيما: فهي علامة بنفسها، لم يقصدها؛ مثل سيما المؤمنين، وسيما المنافقين؛ قال تعالى في المؤمنين: {سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} ، وقال في المنافقين: { [فَلَعَرَفْتَهُمْ] بِسِيمَاهُمْ}.


- يُروى: "هذا وضوئي ووضوء النبيّين من قبلي": ضعيفٌ، بخلاف الصلاة في المواقيت الخمس؛ فإنّ الأنبياء كانوا يصلون في هذه المواقيت؛ كما قال: "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك".


- لكن الشياطين ‌تظهر ‌عند ‌كل ‌قوم بما لا ينكرونه؛ فإذا كان القوم كفاراً لا ينكرون السحر والكهانة؛ كما كانت العرب؛ وكالهند، والترك، والمشركين، ظهروا بهذا الوصف؛ لأن هذا معظّمٌ عند تلك الأمة، وإن كان هذا مذموماً عند أولئك، كما قد ظهر ذم هؤلاء عند أهل الملل؛ من المسلمين، واليهود، والنصارى، أظهرته الشياطين فيمن يُظهر العبادة، ولا يكون مخلصاً لله في عبادته متبعاً للأنبياء، بل يكون فيه شركٌ، ونفاقٌ، وبدعةٌ.


- والتعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن، أولى من التعبير عنها بغيرها؛ فإن ألفاظ القرآن يجب الإيمان بها، وهي تنزيل من حكيم حميد، والأمة متفقة عليها، ويجب الإقرار بمضمونها قبل أن تفهم، وفيها من الحكم والمعاني ما لا تنقضي عجائبه، والألفاظ المحدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع.


- ولفظ الإنباء: يتضمَّن معنى الإعلام والإخبار، لكنّه في عامّة موارد استعماله أخصّ من مطلق الإخبار؛ فهو يستعمل في الإخبار بالأمور الغائبة المختصة، دون المشاهدة المشتركة.


- فإنّ الأدلة النظرية لا بُدّ أن [تنتهي] إلى مقدمات [ضرورية] وقوله: {لأغلبنّ} : قَسَمٌ أقسم الله عليه، فهو جواب قسم، تقديره: والله لأغلبنّ أنا ورسلي.


- واختلفوا: هل يكون في الجن رسل؟ والأكثرون ‌على ‌أنّه ‌لا ‌رسل ‌فيهم.


-[و] أكثر الانتفاع بكلام هؤلاء (المخالفين من المتكلمين ونحوهم)، هو فيما يثبتونه من فساد أقوال سائر الطوائف وتناقضها.


- فدلائل الصدق والكذب لا تنحصر كدلائل الحب والبغض، هي كثيرة جداً، وهذا يعرفه من جرَّب ‌عادات ‌الناس.


- فهؤلاء الشياطين إذا كانوا مع جنسهم، الذين لا يهابونهم، فعلوا هذه الأمور. وأما إذا كانوا عند أهل [إيمان] وتوحيد، وفي بيوت الله التي يُذكر فيها اسمه، لم [يجترئوا] على ذلك، بل يخافون الرجل الصالح أعظم ممّا [يخافه] فُجّار الإنس


‌- والجن [‌كالإنس] ، فيهم المؤمن المطيع، والمسلم الجاهل، أو المنافق، أو العاصي، وفيهم الكافر. وكلّ ضرب يميل إلى بني جنسه


- فكثيرٌ من الناس قتلته الجنّ. كما يصرعونهم، والصرع لأجل الزنا، وتارة يقولون إنه آذاهم؛ إما [بصبّ نجاسة] عليهم، وإما بغير ذلك؛ فيصرعونه صرع عقوبة وانتقام.
وتارة يفعلون ذلك عبثاً؛ كما [يعبث] شياطين الإنس بالناس.
والجنُّ أعظم شيطنة، وأقلّ عقلاً، وأكثر جهلاً.


- وتعترف الجن والإنس الذين خوارقهم بمعاونة الجن لهم [أنهم] لا يمكنهم أن يظهروا هذه الخوارق بحضرة أهل الإيمان والقرآن، ويقولون: أحوالنا لا تظهر قدام الشرع والكتاب والسنة، وإنما [تظهر] عند الكفار والفجار؛ وهذا لأنّ أولئك أولياء الشياطين، ولهم شياطين يعاونون شياطين المخدومين، ويتفقون على ما يفعلونه من الخوارق الشيطانيّة.


- كما أن كيدهم في شهر رمضان ضعيف؛ إذ كانوا فيه يُسلسلون4، لكن لم يبطل فعلهم بالكلية، بل ضَعُف، فشرّهم فيه على أهل الصوم قليل.


- فإنّ الشياطين هنالك مَحَالُّهم، وهم يحبون الظلمة، ويكرهون النور، ولهذا ينتشرون بالليل؛ كما جاء في الحديث الصحيح، ولهذا أمر الله بالتعوّذ من شرّ غاسق إذا وقب.


- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الغاسق قد فسر بالليل، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة.... والليل مظلم تنتشر فيه شياطين الإنس والجن ما لا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار؛ من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، والسحر، والسرقة، والخيانة، والفواحش، وغير ذلك. فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر ويدعونه، والقمر وعبادته. وأبو معشر البلخي له مصحف القمر يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه". دقائق التفسير 6497. من كلام محقق الكتاب.


- كما قال تعالى: {كَذَلكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَومٌ طَاغُون} ، وذلك أن الرسول يأتي بما يخالف عاداتهم، ويفعل ما يرونه غير نافع، ويترك ما يرونه نافعاً. وهذا فعل المجنون؛ فإن المجنون فاسد العلم والقصد. ومن كان مبلغه من العلم إرادة الحياة الدنيا، كان عنده من ترك ذلك، وطلب ما لا يعلمه: مجنوناً. ثمّ النبيّ مع هذا يأتي بأمور خارجة عن قدرة الناس؛ من إعلام بالغيوب، وأمور خارقة لعاداتهم؛ فيقولون: هو ساحر.


- وهذا مذكورٌ عند أهل الكتاب في نبوة أشعيا. ولفظ التوراة: قد يُراد به جميع الكتب التي نزلت قبل الإنجيل؛ فيقال: التوراة، والإنجيل. ويُراد بالتوراة: الكتاب الذي جاء به موسى وما بعده من نبوة الأنبياء المتبعين لكتاب موسى، قد يُسَمَّى هذا كله توراة؛ فإن التوراة تفسر الشريعة؛ فكلّ من دان بشريعة التوراة: قيل لنبوته: إنَّها من التوراة.
وكثيرٌ مما يعزوه كعب الأحبار ونحوه إلى التوراة، هو من هذا الباب، لا يختص ذلك بالكتاب المنزل على موسى؛ كلفظ الشريعة عند المسلمين: يتناول القرآن، والأحاديث النبوية، وما استخرج من ذلك؛ كما قد بسط هذا في موضع آخر.


- والمقصود هنا: أنّ الأنبياء يفتحون الأعين العمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغلف. والسحرةُ يفسدون السمع والبصر والعقل، حتى يخيّل للإنسان الأشياء بخلاف ما هي عليه، فيتغير حسه وعقله. قال في قصة موسى: {سَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ وَاستَرْهَبُوهُم وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم}. وهذا يقتضي أنّ أعين الناس قد حصل فيها تغيُّر. ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِن السَّمَاءِ فَظَلُّوا فيهِ يَعرجُون لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَت أَبْصَارُنَا بَل نَحْنُ قَومٌ مَسْحُورُون} ، فقد علموا أن السحر يغير الإحساس، كما يوجب المرض والقتل. وهذا كلّه من جنس مقدور الإنس؛ فإن الإنسان يقدر [أن] يفعل [في] غيره ما يفسد إدراكه، وما يمرضه ويقتله. فهذا مع كونه ظلماً وشراً، هو من جنس مقدور البشر.


- وكذلك يأتي كثيراً من الناس في مواضع، ويقول: إنه الخضر، فاعتقد أنه الخضر، وإنما كان جنيّاً من الجن. ولهذا لم يجترىء الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة: إنّه الخضر، ولا قال أحد من الصحابة: إني رأيت الخضر. وإنما وقع هذا بعد الصحابة. وكلما تأخّر الأمر كثر، حتى إنه يأتي اليهود والنصارى، ويقول: إنه الخضر.
ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر.
وكثيرٌ من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر.
والخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا.
ولهذا يقول من يقول منهم: لكل ولي خضر. وإنّما هو جني معه.


- والتأييد بحسب الإيمان، فمن كان أقوى من غيره، كان جنده من الملائكة أقوى، وإن كان إيمانه ضعيفا كانت ملائكته بحسب ذلك؛ كمَلَك الإنسان وشيطانه، فإذا كانت حسنات الإنسان أقوى، أُيِّدَ بالملائكة تأييداً يقهر به الشيطان، وإن كانت سيئاته أقوى، كان جند الشيطان معه أقوى. وقد يلتقي شيطان المؤمن بشيطان الكافر؛ فشيطان المؤمن مهزول ضعيف، وشيطان الكافر سمين قوي. فكما أن الإنسان بفجوره يؤيد شيطانه على مَلَكه، وبصلاحه يؤيد ملكه على شيطانه، فكذلك الشخصان يغلب أحدهما الآخر؛ لأنّ الآخر لم يؤيد مَلَكَه، فلم يؤيده، أو [ضعف] عنه؛ لأنّه ليس معه إيمان [يعينه] ؛ كالرجل الصالح إذا كان ابنه فاجراً، لم يمكنه الدفع عنه لفجوره. وبسط هذه الأمور له موضع آخر.


- فكلّ من خالف طريق الأنبياء، لا بُدّ له من الكذب والظلم؛ إما عمداً، وإما جهلاً.... إذ من أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه، من غير اجتهاد يُعذر به، فهو كذّاب.


- فإن الله سبحانه لا يُخلي الصادق ممّا يدلّ على صدقه، ولا يُخلي الكاذب ممّا يدلّ على كذبه؛ إذ من نعته ما أخبر به في [قوله]: {أَمْ يَقُولُونَ افْترَى على اللهِ كَذِباً فَإِن يَشَأ اللهُ يَخْتِمُ عَلَى قَلْبِكَ}. ثم قال خبراً مبتدياً: {وَيَمْحُو اللهُ الباطلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}؛ فهو سبحانه لا بُدّ أن يمحق الباطل، ويُحقّ الحق بكلماته.
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَواتِ والأرْضَ وما بينهُما لاعِبِينَ لو أرَدْنا أَن نتخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِن لَدُنَّا إن كُنَّا فاعِلِينَ بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زَاهِق ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
كما أخبر في موضع أنّه لم يخلق الخلق عبثاً ولا سُدى، وإنّما خلقهم بالحق وللحق، فلا بُدّ أن يجزي هؤلاء وهؤلاء بإظهار صدق هؤلاء، وإظهار كذب هؤلاء؛ كما قال: {بلْ نَقْذِفُ بالحقّ عَلى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هوَ زَاهِق}.

الأحد، 8 يونيو 2025

مختارات من كتاب (تيسير علم أصول الفقه) للشيخ الجديع

فإن شرف العلم لا يخفى، وهو درجات ومنازل تعرف بما تتصل به، فسموها من سموه، وقدرها من قدره، فلذا كان أعلاها علوم الدين التي تدرك بها معانيه وأسراره، وإنما شرفت وعظم قدرها لصلتها بالله رب العالمين، فهي العلوم الموصلة في الحقيقة إليه، وهذا معنى أكبر من علوم الشريعة المقننة بالاصطلاح، بل هو شامل لما يحقق من العلوم أسباب الوصول إلى الله عزوجل، فيندرج تحته كل علم أدى إلى هذه الحقيقة وإن ألصق بالدنيا في عرف الناس، لكن من العلم ما يصير إلى هذه الحقيقة بالمقاصد والنيات، ومنه ما هو من هذه الحقيقة بأصله، كالعوم التي يدرك بها مراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهذه علوم باقية كطريق موصل إلى الله وإن فسدت في طلبها النيات والمقاصد، على أنه ما من إنسان يسعى لتحصيلها فيجد لذتها عند الطلب إلا وجرته بنفسها إلى الإخلاص، كما قال مجاهد رحمه الله: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله بعد فيه النية [أخرجه الدارمي بسند حسن].ص5

- وسمي (تكليفيا) لأنه يقع بامتثاله كِلفة.

كتاب تيسير علم أصول الفقه - أقسام الحكم - المكتبة الشاملة ص18

ـ الفعل النبوي إذا جاء تفسيرا لواجب مجمل كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) [أخرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث] ، وقد صلى بفعله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لتأخذوا مناسككم)) [أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله] ، وقد حج بفعله، هل يكون ذلك الفعل واجبا؟

التحقيق الذي عليه أكثر أهل العلم أن البيان بالفعل واقع على ما هو واجب كالركوع والسجود في الصلاة، وعلى ما هو مندوب كرفع اليدين وصف القدمين ووضع اليمنى على اليسرى، فمجرد الفعل النبوي لم يحل المندوب منها واجبا، وذلك لو صح فإنه يعني أن المندوبات في حقه - صلى الله عليه وسلم - انقلبت واجبات بفعله في حق أمته، وهذا معنى لا يتصور، فالتكليف في حقه - صلى الله عليه وسلم - مقطوع بأنه آكد منه فبي حق أمته.

فلا يصلح إذا إطلاق أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لواجب فكل أجزاء ذلك الفعل واجبة على أمته، وإنما يستفاد وجوبها من غير ذات الفعل، وتبقى مشروعية المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة في الواجب، ومندوبة في المندوب.

ص ٢٢

- واجب كفائي، أو (فرض كفاية) ، وهو ما طلب الشارع حصوله من جماعة المكلفين، بحيث لو قام بعضهم برئت ذمة سائرهم.

مثل: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحصيل الأسباب لحفظ الضرورات الخمس: الدين، والنفس والمال، والعرض، والعقل، كالتفرغ للعلوم المتخصصة في الشريعة والحياة، وإدارة شؤون الحكم والقضاء والسياسة.

واجتماع الناس على التفريط بهذا الواجب اجتماع على الإثم، ولا تبرأ ذممهم حتى يوجد فيهم من يحقق الكفاية لسائر المسلمين بتحصيل ذلك الواجب.

ص٢٧-٢٨

- من درجات المندوب:

٣ـ فضيلة وأدب:

وتسمى كذلك بـ (سنة الزوائد) ، و (سنة العادة) ، وهي الأفعال النبوية في غير أمر التعبد، كصفة أكله وشربه ونومه ولباسه ومشيه وركوبه، ونحو ذلك، فإن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها فضيلة، فذلك من باب التشبه به، وهو ممدوح، ما لم يعارض مصلحة أرجح.

وهذا باب جرى فيه الحال النبوي على مقتضى الطبع البشري، أو على مجاراة العرف الذي لم يخالف الدين، فما كان منه بمقتضى الطبع فالسنة فيه أن يجاري الإنسان طبع نفسه ما دام لا يخالف الشريعة، وبذلك يحقق الاقتداء بأتم من تحقيقه له لو تكلف وتصنع بخلاف طبعه ليوافق المشية النبوية أو القعدة النبوية، وإن كان جاريا على موافقة العرف كلبس الإزار والقميص الطويل، فإن السنة التي ينبغي المتابعة فيها هي أن يجاري المسلم عرف بيئته وزمانه في ذلك ما دام لم يخالف شرعا في نوع لباسهم وهيئتهم، ويكون قد خالف الاقتداء بمخالفة العرف، لأن الكون في المجتمع والناس على سبيل الموافقة لا المخالفة مقصود لئلا يقع التميز ومن ثم الارتفاع على الخلق والتزكية للذوات، وإنما يدع المسلم من العرف ما خالف الشرع في أمر أو نهي.

وبعد هذا فيبقى من (سنن العادة) ما لا يندرج تحت طبع ولا عرف، مما لا يخلو في أكثر الأحيان من معان شرعية أو صحية أو غير ذلك، يجدها المتأمل لو أمعن النظر، وهذا كصفة جلوسه - صلى الله عليه وسلم - للأكل، فإنه قال: ((لا آكل متكئا)) ، وفيه معنى شرعي ديني ومعنى صحي، فالمعنى الشرعي الديني بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في حديث آخر: ((آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)) ، [حديث حسن رواه ابن سعد وأحمد في ((الزهد)) وغيرهما] ، وهذا معنى تواضع وانكسار، وأما المعنى الصحي فإن الاتكاء فسر بالتربع، كما فسر بالجلوس معتمدا على شيء، وعلى أي التفسيرين فهي هيئة تمكن تدفع إلى الإقبال على الطعام بنهمة مع استعداد البطن للامتلاء، فقد استرخت المفاصل وارتفعت القيود، بخلاف جلسة العبد المقلقة التي صورتها صورة جلسة العجلان الذي ينتظر متى يفرغ من طعامه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) [حديث صحيح رواه الترمذي وغيره.

ص٣١-٣٢

- ومنه تلاحظ الفرق بين (الحكم التكليفي) و (الوضعي) بكون الأول داخلا تحت قدرة المكلف، وأما الثاني فليس مبنيا على قدرة المكلف أو عدم قدرته، إنما هو قرار الشريعة في اعتبار الأشياء أو عدم اعتبارها.

ص52 - كتاب تيسير علم أصول الفقه - الحكم الوضعي - المكتبة الشاملة.

- فإذا كان السبب معقول المعنى يدرك العقل مناسبته للحكم سمي ب (العلة) كما يسمى (السبب) ، مثل: الإسكار علة لتحريم الخمر.

وإذا كان السبب غير معقول المعنى، بأن خفي على العقل أن يدرك مناسبته للحكم، فيقتصر على تسميته (سببا) ولا يسمى (علة) ، مثل: دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة.

فائدة هذا التفصيل:

ما سمي (علة) صح فيه القياس، وما لم يسم (علة) امتنع فيه القياس. ص٥٣ .

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص59):

«ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يؤثر على العقدِ، وستأتي المسألَةُ قريبًا.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص62):

«لا فرقَ بين الباطل والفاسد:

جمهور العلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ) .

والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا:

1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ.

2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولد بهما.

وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص63):

«فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص72- 73):

وللعقلِ تحسينٌ وتقبيحٌ لا يُنكرَانِ، لكنَّهُ لا يثبتُ بمجرَّدِهِ وجوبٌ ولا ندْبٌ ولا حُرمَةٌ ولا كراهَةٌ ولا إباحَةٌ ولا صحَّةٌ ولا فسادٌ ولا رُخصةٌ ولا عزيمةٌ، ولا يترتَّبُ على مُقتضاهُ ثوابٌ ولا عقابٌ،

«والنَّاسُ قبلَ بلوغِ أحكامِ الله لهُم عن طريقِ رُسُلهِ وكتُبِهِ غيرُ مكلَّفينَ بشيءٍ من تلكَ الأحكامِ، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وإنَّما تقومُ الحجَّةُ على الخلقِ بِبُلوغِ أحكامِ الله لَهُمْ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص76):

«لكنْ هلْ يُعفى المكلَّف بالجهلِ مع إمكانِ العِلمِ أم يُؤاخَذُ؟ الجوابُ: أنَّهُ يأثَمُ بالتَّفريطِ في طلبِ العِلمِ معَ القُدرَةِ عليهِ وذلكَ من حيثُ الجُملَةُ لا بخصُوصِ جَهلِهِ بِحُكمٍ معيَّنٍ، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .

ومن الأصوليِّينَ من فرَّق بين الجهلِ بالأحكامِ لمن يعيشُ في بلادٍ إسلاميَّةٍ، ومن يعيشُ في بلادٍ غير إسلاميَّة، وليس التَّفريقُ بظاهرٍ في الأدلَّةِ، فإنَّ الجهلَ واردٌ على أيِّ حالٍ، لكنَّ الَّذي يقعُ في دارِ الإسلامِ أنَّ المعلومَ من الدِّين بالضَّرورةِ لا يخفى والحُجَّةُ به قائمةٌ، فلوْ زَنَى رجلٌ من المسلمينَ وقدْ تربَّى في الإسلامِ وبينَ أهلِهِ وادَّعى أنَّهُ لا يعلمُ حُرمَةَ الزِّنا لما كان عُذرًا يحولُ بينهُ وبين العُقوبَةِ، لأنَّ الحُجَّةَ ظاهرةٌ في مثلِ ذلكَ، وقولهُ محمولٌ على الكذبِ، إلَاّ أن يكونَ في بيئةٍ ذَهَبَتْ عنها معالمُ الدِّينِ وليسَ فيها من الإسلامِ إلَاّ اسمُهُ، فهَذه دارٌ أشَهُ بدَارِ الكُفرِ وإن بقيَ لأهلِهَا اسمُ الإسلامِ.

والأقربُ في هذا أن يعودَ الأمرُ إلى أن يُقدِّرَ كلُّ ظرفٍ بما يُناسبُهُ، والعُمدَةُ فيهِ على بُلوغِ الحجَّةِ، أما لجهلُ ذاتُهُ فهوَ مانعٌ من التَّكليفِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص80):

«3ـ ما اجتمعَ فيه الحقَّان وحقُّ الله فيه أغلَب:

مثالُهُ: حدُّ القَذْفِ، فحقُّ الله فيه من جهةِ وقايةِ المجتمعِ من أن تشيعَ فيه الفاحشَةُ، وهذا ضررٌ عامٌّ، وحقُّ العبدِ من جهةِ ما فيه من إظهار عفَّتِهِ وبراءتهِ، والضَّرر العامُّ أغلبُ من الضَّررِ الخاصِّ، فإنَّهُ لو غُلِّب حقُّ العبد في ذلك فأسقَطهُ لكونِهِ حرَّ التَّصرُّفِ في حقِّه لما وقعَ الزَّجرُ للقذفة بما يرْدَعَهُم عن إشاعَةِ الفاحشَة في الَّذين آمنُوا، فكأنَّ تلك الإشاعَةَ وإنْ وقَعَتْ لشخصٍ بعينِهِ فإنَّهَا متعدِّيَةٌ إلى غيرهِ من أفرادِ المجتمعِ لعُمومِ الفَسادِ بهَا، وهذا مرجِّحٌ للحقِّ العامِّ، فلهَذا لا يملكُ أن يُسقِطَ حَدَّ القذف أحدٌ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص84):

«ويُعبَّرُ عن هذه الأهليَّة بـ (الذِّمَة) ، فكلُّ إنسانٍ له ذِمَّةٌ تتعلَّقُ بها حقوقٌ ووَاجِباتٌ.

وتثبتُ هذه الأهليَّة للإنسانِ بمجرَّدِ (الحياة) ، فكلُّ إنسانٍ حيٍّ له أهليَّةُ وجوبٍ.

قيلَ: أصلُ هذه الأهليَّةُ مستفادٌ من العهدِ الأوَّلِ الَّذي أخذهُ الله تعالى على بني آدم، كما قال عزَّوجلَّ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] ، ذلك أنَّ (الذِّمةَ) هي العهدُ،»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص85):

«والعهدُ الثَّابتُ للإنسانِ بمجرَّدِ إنسانيَّتهُ هو هذا العهْد.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص86):

«فهَذا الحديثُ فيه اعتبارُ حياةِ الجنينِ شرعًا، لكنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يجعلْ ديتَهُ ديةَ المولودِ، بلْ نقصتْ عن ذلك، وذلكَ لأجلِ عدمِ انفصَالِهِ واستقلالِه.

لهذَا فأهليَّتُهُ (أهليَّةُ وجوبٍ ناقصةٌ) يجبُ لهُ لا عليهِ، ومن فُروعِ هذه الأهليَّةِ: استحقاقُه الميراثَ والوصيَّةَ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص86 -87):

«2ـ الطفلُ غيرُ المميِّز:

وليسَ للتَّمييزِ سنٌّ محدَّدٌ في الشَّرعِ، إنَّما هو أمرٌ تقديريٌّ يعودُ إلى ما غلبَ عليهِ من التَّفريقِ بين المنافعِ والمضارِّ وإدراكِ الخطإ والصَّواب، ويمكنُ أن يُجعلَ له ضابطٌ بفهمِ الطِّفلِ للاستئذانِ قبل الدُّخولِ في السَّاعاتِ الثَّلاث الَّتي قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور: 58] ، وكذلك بتمييز الطِّفلِ بين ما هوَ عورةٌ وما ليسَ بعورةٍ، فإنَّ الله تعالى ذكرَ فيمَنْ استثناهُم فيمَنْ تُبدي المرأةُ بحضرَتِهم زينتهَا الأطفالَ الَّذين لم يُميِّزُوا بقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}» «[النور: 31] .

والأهليَّةُ الثَّابتُ للطِّفلِ الَّذي لم يُميِّز أهليَّةُ وجوبٍ كاملةٍ، تجبُ لهُ الحقوقُ وعليهِ، أمَّا وجوبُ الحقوقِ فإذا صحَّتْ للجنينَ فلهُ أولى، فتثبتُ حقوقُه في الميراثِ والوصيَّةِ وغير ذلك، وأمَّا الوجوبُ عليه فليسَ على معنى أنَّهُ مُطالبٌ بها، فإنَّه ليس عليهِ أهليَّةُ أداءٍ، وإنما تجبُ عليه حقُوقٌ يؤدِّيها عنه وليُّه، كوُجوبِ الزَّكاةِ في مالهِ، فإنَّ على وليِّه أن يُخرجَ من مالِهِ الزَّكاةَ، ولوْ أتْلفَ شيئًا وجبَ الضَّمانُ في مالهِ يؤدِّيه عنهُ وليُّه، لكنَّه لا يُؤاخذُ في نفسهِ ولا يوصفُ بالتَّقصيرِ لِفُقدانِهِ شرطَ التَّكليفِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص88):

«وأمَّا تصرُّفاتُه الماليَّةُ فهي على ثلاثَةِ أنواعٍ:

[1] ما فيه منفعةٌ خالصةٌ للطِّفل، كالهِبةِ والصَّدقة لهُ، فلو قبِلَهَا فقبُولهُ صحيحٌ معتبرٌ، بناءً على الأصلِ في مراعاةِ منفعَتِهِ.

[2] ما فيه ضررٌ خالصٌ لهُ، فتصرُّفه فيه غيرُ معتبرٍ، كأنْ يهبَ من مالهِ، فهو ليسَ أهلاً للتَّصرُّف في المالِ لقُصورِ العقلِ، وقد قال الله تعالى لوليِّ مالِ اليتِيمِ: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .

[3] ما تردَّد بين المنفعةِ والضَّررِ، كمزَاولَةِ البيعِ والشِّراءِ من قبلِ الطِّفلِ، فاحتمالُ الرِّبحِ والخسارَةِ واردٌ فيها، فهذا النَّوعُ من العقودِ صحيحٌ منه إذا أذِنَ الوليُّ، فإذنًه يجبُر النَّقصَ في أهليَّةِ الأداءِ عندَ الصَّبيِّ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص90):

«‌‌2ـ العتَه:

هو اختلالٌ في العقلِ يصيرُ بهِ صاحبُهُ مختلِطًا، يُشبِهُ حالُهُ أحيانًا حَالَ العُقلاءِ وأحيَانًا حالَ المجانِين.

فهذَا له حالانِ: الإلحاقُ بالمَجنُونِ حينَ تغلِبُ عليهِ أوصافُهُ، وبالعاقلِ حين تَغْلِبُ عليهِ أوصَافُه، لكنَّهُ لا يكُونُ لهُ منزلَةُ العاقِلِ البالِغِ من أجلِ ما يعترِيهِ من وصفِ المجَانِينِ، فلِذا:

تثبتُ لهُ أهليَّة وجوبٍ كاملةٌ، وتنعدمُ في حقِّه أهليَّة الأداءِ عندَمَا يُلحقُ بالمجنونِ، وتثبتُ لهُ أهليَّةُ أداءٍ ناقصَةٌ حينَ يُلحقُ بالعُقلاءِ.

وفيه قولُهُ صلى الله عليه وسلم في بعضِ الأحاديثِ الصَّحيحَةِ الوَاردةِ في رفعِ القلَمِ: ((وعنِ المعتُوهِ حتَّى يَعْقِلَ)) .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص93):

«ومنَ الفُقهَاءِ من شبَّهَ (المُغمَى عليه) بالمَجْنُونِ، وهذا خطَأٌ في التَّحقيقِ لبَسْطِهِ موضعٌ آخرُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص99):

«[2] الاعتقادات:

وتقعُ على ما يتكلَّمُ به الهازلُ، ولا يُقالُ لم يُردْ حقيقَتَهَا، مثالُهَا: لوْ تكلَّم إنسانٌ بكلمةِ الكُفرِ هازلاً وقال: ما قصدْتُ ولا أرَدْتُ أُخذَ بهَا، وعُدَّتْ رِدَّةً عن الإسلامِ، لِمَا في هزْلِهِ من الاستِخفافِ بدينِ الإسلامِ.

قال الله عزَّوجلَّ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65ـ 66] ، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حلفَ فقالَ: إنِّي بريءٌ من الإسلامِ، فإنْ كانَ كاذِبًا فهوَ كما قال، وإنْ كانَ صادِقًا فلنْ يرْجِعَ إلَى الإسلامِ سالمًا)) [أخرجه أبوداود وغيرُهُ بسندٍ صحيحٍ] .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص99):

«[3] الإنشاءات:

وهي العُقودُ، وهي نوعانِ:

(1)   تنفذُ معَ الهزلِ وتقعُ صحيحةً، وهيَ الَّتي ورَدَتْ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وهزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاقُ، والنِّكاحُ، والرَّجعَةُ)) [حديثٌ حسنٌ رواهُ التِّرمذِيُّ وغيرهُ] ، ولعلَّ المعنى في إمضاءِ هذهِ العُقودِ حتِّى مع الهزْلِ أنَّها لا تخلو من حقِّ الله تعالى فيها، فيكونُ الهزلُ بها من اتِّخاذِ آياتِ الله هُزُوًا، وقد قال تعالى في صَدَدِ بيانِ أحكامِ الطَّلاقِ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص110):

«وهذا التَّرتيبُ من جهَةِ البدْءِ في الاستدلالِ ومنزلَةِ الدَّليلِ، أمَّا مِنْ جهةِ كونِ الدَّليلِ حُجَّةً في إفادَةِ الأحكامِ فالوحيُ: كتابٌ وسُنَّةٌ درجَةٌ واحدَةٌ كما سيأتي بيانُهُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص112):

«والله تعالى قال فيه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] ، ولم يكُنْ ساعتهَا صارَ كتابًا مجموعًا؛ إشارةً إلى»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص113):

«أنَّه سيكونُ الطَّريقَ إلى وقايَتِهِ وبقائِهِ كما أنزلَهُ الله عزَّوجلَّ، فكُتِبَ بأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُنسِخَ بإجماعِ الصَّحابةِ، وبلغتْ نُسخَهُ الآفاقَ ولم تزلْ لا تختلفُ في شيءٍ، وستبقَى لا تختَلِفُ في شيءٍ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص114):

«6ـ أنَّهُ مُعجزٌ.

وهذا اختصاصٌ للقرآنِ ليسَ يُساوِيهِ فيه كلامٌ، فلا قُدرةَ لأحدٍ أن يأتي بشيءٍ مثلِهِ لا سورةٍ ولا أقلَّ ولا أكثرَ، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، فلا يقدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بمثلٍ كمثلِهِ، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] ، ولا يأتي بلفظٍ كلفظِهِ، كما قالَ تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) } [الزمر:»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص115):

«32] ، ولا أنْ يَأْتي بِحُكمٍ كحُكمِهِ، كما قال تعالى: {مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص122):

«[3] تأخيرُ البيانِ إلى وقتِ استِعْدَادِ المُكلَّفِ.

فمنْ هَذا: التَّدرُّجُ في التَّشريعِ،

ومنهُ: التَّدرُّجُ في التبليغ»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص124):

«وتسميةُ هذه الدَّلالةِ (ظنيّة) لأجلِ ووردِ الاحتمالِ وعدَمِ امتناعِ لفظِ الآيةِ عن قبولهِ، وهي تسميَةٌ اصطلاحيَّةٌ.

وأكثرُ نصوصِ القرآنِ تندرجُ تحتَ هذا القسمِ في إفادَةِ الأحكامِ، وهذا مُتناسقٌ مع أمر الله تعالى بالتَّفقُّهِ في آياتِهِ وتدبُّر معانيها ودلالاتهَا، ولوْ جاءتْ قطعيَّةَ الألفاظِ امتنعَ ذلكَ فيهَا.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص145):

«نعمْ؛ لا يصحُّ اعتقادُ ضياعِ شيءٍ من السُّننِ، لأنَّ الله تبارك وتعالى تعهَّدَ بحفظِ وحيِهِ لِيبقَى حُجَّةً ما بقيَ الخلقُ، وهذه قضيَّةٌ لبسطِهَا موضعٌ آخرُ، ولكنَّ الَّذي يعنِينا هُنا هوَ أنَّ الأسبابَ المتقدِّمَةَ ونحوَها جعلتْ نقلَ السُّنَّةِ دونَ نقلِ القرآنِ،»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص146):

«التَّواترُ لُغةً: التَّتابعُ، يقالُ (تواترت الخيل) إذا جاءتْ يتْبعُ بعضُها بعضًا، و (جاءُوا تَتْرَى) أي متتابعينَ وِتْرًا بعدَ وِترٍ، و (الوِتُرُ) الفرْدُ، فمن هذا قيلَ للحديثِ (مُتواترٌ) لأجلِ تتابُعِ الأفرادِ فردًا بعدَ فرْدٍ على روايتِهِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص152):

«وهذا المسلكُ في التَّفريقِ بين العقائدِ والشَّرائعِ بِدْعَةٌ دخيلةٌ، تأثَّرَ بها كثيرٌ من المتأخرينَ المُنتسبينَ للسُّنَّةِ، لأنهم وجدُوا أخبارَ الآحادِ توصفُ بالظَّنِّ، وهذا إطلاقٌ مُوهمٌ ليسَ بِجيِّدٍ، فإنَّ العلمَ يصحُّ فيه الاكتفاءُ بالدَّلائلِ الظَّاهرَةِ، وهوَ يتفاوتُ قوَّةً بحسبِ قوَّةِ البُرهَانِ وظُهورِهِ، وليسَ مُطلقُ الظَّنِّ مقبولاً، إنَّما يُقبلُ الظَّنُّ الرَّاجحُ إلى درجَةِ اليقينِ، وذلك لا يحصلُ في الأحاديثِ إلَاّ بشُروطٍ شديدَةٍ، ولكنْ كيف يُدركُ ذلك من أفنى عُمُرَهُ في الكلامِ في أُصولِ الفقهِ على طُرقِ أهلِ الكلامِ من غيرِ درايةٍ بمناهجِ أهلِ الحديثِ العارفينَ بهِ وجهُودِهم في تحقيقهِ وتنْقيحِهِ؟!»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص152- 153):

«ولعلَّهُ من الجديرِ بالمُلاحظَةِ في هذه المسألةِ أن يُلغَى استخْدَامُ عبارةٍ (حديثُ الآحادِ يُفيدُ الظَّن الرَّاجحَ) من غيرِ بيانٍ لحقيقةِ هذه» اللَّفظةِ، دفعًا لما يقعُ بها من اللَّبسِ، فإنَّها لفظةٌ اصطلاحية لم ترِدْ في كتابٍ ولا سُنَّةٍ، فلا محذُورَ في ترْكِهَا.

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص154):

«والتَّحقيقُ في هذه المسألةِ:

أنَّ مذهبَ مالكٍ الَّذي يُبيِّنُه المحقِّقُونَ من أصحابِهِ كأبي الوليدِ الباجيِّ وغيرهِ رحمهم الله أنَّه يرى الاحتِجاجَ بعملِ أهلِ المدينةِ فيما كان الأصلُ فيه النَّقلَ لا الاجتهادَ»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص160):

«اصطلاحًا: اتِّفاقُ مجتهدِي أُمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد وفاتِه في عصرٍ من العصُورِ على حكمٍ شرعيٍّ.

هكذا يُعرِّفُ الأصوليُّونَ (الإجماعَ) ، وهي صُورةٌ خياليَّةٌ لا وُجودَ لهاَ، فليسَ هُناكَ أمرٌ واحدٌ يصحُّ أن يُدَّعى أنَّهُ اجتمعَتْ في مثلهِ قيودُ هذا التَّعريفِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص175):

«[2] أن يكونَ حُكمًا معقولَ المعنَى.

أيْ يُمكنُ أن تُركَ علَّةُ تشريعِهِ، مثلُ: تحريمِ الخمرِ، أو الرِّبا، ومنعِ القاتلِ من الإرثِ ممَّن قتلَ.

وبهذا الشَّرطِ تخرُجُ الأحكامُ التَّعبُّديَّةُ المحضَةُ فيمتنِعُ فيها القياسُ وإنْ كانتْ أحكامًا عمليَّةً، وفي هذا يُقالُ: (لا قياسَ في العبادَاتِ) ، لأنَّها استأثرَ الله تعالى بعلمِ عِلَلها، مثلُ عددِ الصَّلواتِ وركعَاتِهَا، وكمْ يُجلَدُ الزَّاني والقاذِفُ، والقَاعِدَةُ العامَّةُ في ذلكَ: (الأصلُ في العبادَاتِ التَّعبُّدُ دونَ الالْتِفاتِ إلى المعاني، والأصلُ في العادَاتِ التَّعليلُ) .

وقدْ سلَكَ الشَّافعيُّ مَسْلكَ التَّضْييقِ في تعليلِ الأحكامِ، حتَّى ذهبَ إلى أنَّ (الأصلَ في جميعِ الأحكامِ التَّعبُّدُ) ، بخلافِ أبي حنيفةَ، فإنَّ القاعدَةَ عندهُ (الأصلٌ في الأحكامِ التَّعليلُ) ، وبنى كلٌّ على أصلهِ مسائلَ في الفقهِ، فالشَّافعيُّ لا يرى غير الماءِ من السَّوائلِ يقومُ مقامَهُ في التطهير من النَّجاسَةِ لأنَّ الحُكمَ عندهُ فيه تعبُّدِيٌّ لا يُعقلُ معناهُ، بخلافِ الحنفيَّة، فعندَهُم صحَّةُ التطهُّرِ بكلِّ مائعٍ طاهرٍ يُزيلُ عينَ النَّجاسَةِ، لأنَّ العلَّةَ في ذلكَ إزالةُ النَّجاسَة وهي حاصلَةٌ بهِ.»

(ص176):

«والفصْلُ في هذهِ القضيَّةِ يعودُ إلى تحديدِ ما هوَ عبادَةٌ محضَةٌ، وما يُعقلُ معناهُ وتُدركُ علَّتهُ، وهذا ممَّا يقعُ فيه الاختلافُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص179):

«فالحاصلُ في الفَرْقِ بينَ (الحِكمَة) و (العلَّة) أنَّ:

الحكمَةَ هي: المصلحَةُ الَّتي قصدَ الشَّارعُ تحقيقَهَا بتشريعِهِ الحُكمَ.

والعلَّةَ هي: الوصفُ الظَّاهرُ المُنضبِطُ الَّذي بُنيَ عليه الحُكمُ، ورُبطَ بهِ وجودًا وعدمًا.

والعلَّةُ مظِنَّةٌ لتحقيقِ الحِكمَةِ.

تُسمَّى (الحكمَةُ) : المِئَنَّة، كمَا تُسمَّى (العلَّةُ) : المَنَاط، والسَّببُ، والأمارَة.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص186):

«* فائدة:

ومن المسائلِ المشهورةِ الَّتي اختلفَ فيها الفُقهاءُ بسببِ اختلافِهِم في استنباطِ العلَّة: علَّةُ تحريمِ الرِّبا في الأصنافِ الرِّبويَّةِ السِّتَّةِ الواردَةِ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((الذَّهبُ بالذَّهبِ، والفضَّةُ بالفضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص187):

«بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالملحِ، مثلاً بمثلٍ، سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفَتْ هذه الأصنافُ فبِيعُوا كيفَ شئتُمْ إذا كانَ يدًا بيدٍ)) [أخرجه مسلمٌ وغيرُهُ من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ] ، على ثلاثةِ مذاهبِ:

[1] الحنفيَّة: العلَّةُ هي اتِّحادُ الجنسِ من الكيلِ أو الوزنِ، فقاسُوا عليها كلَّ مكيلٍ وموزونٍ.

[2] الشّافعيَّة: بلْ هي اتِّحادُ الجنسِ مع الطُّعمِ أو الثَّمنيَّة، فقاسوا عليها كلَّ مطعومٍ وثمنٍ.

[3] المالكيَّة: بلْ هي اتِّحادُ الجنسِ مع كونِهَا قوتًا مدَّخرًا أو ثمنًا، فقاسُوا عليها الأقواتَ الَّتي تُدَّخرُ والأثمانُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص195):

«ولا تكادُ ترى المسألَةِ (الاستحسان) مثالاً صحيحًا يأتي على تعريفٍ صحيحٍ، ويكفي أنَّ القائلينَ به اضْطربُوا فيه، حتَّى عدُّوا صُورًا من الأحكامِ ثابتةً بالنَّصِّ (استِحسَانًا)»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص199):

«*حجيَّة المصلحة المرسلة:

العبادَاتُ لا يجري فيها العملُ بـ (المصلحَةِ المُرسلَةِ) بلا خلَافٍ، لأنَّ مبنى العباداتِ على النَّصِّ، فالأصلُ فيها التَّوقيفُ، والقولُ فيها بـ (المصلحةِ المرسلَةِ) قولٌ بجوازِ الإحداثِ في الدِّينِ، وهو باطلٌ بالنَّصِّ والإجماعِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص202):

* من أمثلة المصالح المرسلة:

«3ـ لو تعسَّر على أهلِ بلدٍ وجودُ الحلالِ الطَّيِّب في الأموالِ أو المكاسِبِ، وانتشرَ وجودُ الحرامِ، ومسَّتِ الحاجَةُ إلى الزِّيادَة على سدِّ الرَّمقِ في الطَّعامِ والشَّرابِ والمَلبسِ والمسكَنِ، جازَ سدُّ تلك الحاجَةِ فيما يزيدُ على الضَّرورةِ ولا يصلُ إلى التنعم والتَّرفُّهِ، وإباحتُه عندَ الفُقهاءِ بمُقتضَى المصلحةِ رفعًا لحرجٍ لازمٍ، وهوَ أصلٌ جاءتْ به الشَّريعةُ من حيثُ الجملَةُ، فليسَ هو بهذا الاعتبارِ مصلحةً مُلغاةً، لرُجحانِ جانبِ المصلحَةِ على المفسدةِ، وهذا المثالُ صحيحٌ مُتصوَّرٌ في الرِّبا ونحوِهِ، لكنَّهُ ممتنِعٌ فيما كانَ أذًى للغيرِ محضًا أو غالبًا كالغضبِ والسَّرقةِ.

* تنبيه:

للأصُوليِّين والفُقهاء ألقابٌ أخرى لـ (المصلحة المُرسلَة) منها: الاستِصلاح، والاستدلال، واستحسانُ الضَّروةِ، وقياسُ المناسبة.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص203):

«‌‌مسألة سد الذرائع

* تعريفها:

(الذرائعُ) جمعُ (ذريعةَ) وهي لُغَةً: الوسيلةُ المؤدِّيةُ إلى الشَّيءِ.

واصطلاحًا: الوسيلةُ الموصِلةُ إلى الشَّيءِ الممنوعِ المشتملِ على مفسدَةٍ، أو المشروعِ المشتمل على مصلحةٍ.

فهي لهذا الاعتبارِ متَّصلةٌ بالكلامِ على أصلِ (المصالح) .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص213-214):

«* تنبيه:

(العُرفُ) متغيِّرٌ بتغيُّرِ الزَّمانٍ والمكانِ، وما يتمُّ تطبيقُهُ على وَفْقِهِ من الأحكامِ يختلفُ باختلافِهِ، وكثيرٌ من فتاوَى الفُقهاء بُنيَتْ على مُراعَاةِ الزَّمانِ الَّذي كانوا فيه، والبَلَد الَّذي عاشُوا فيهِ، فلا تصلحُ تعديَةُ ما أثَّر فيه العُرفُ من الفتاوى والأحكامِ إلى غيرِ أهلِ العُرفِ الَّذي أثَّر فيها، إنَّما تُعتبرُ خاصَّةً بذلكَ الزَّمانِ أو المكانِ، ويُراعَى»

العُرفُ المستجدُّ في تطبيقِ الأحكامِ على ما يُناسبُهُ.

ورُبَّما أطْلقَ في هذا بعضُ أهلِ العلمِ عبارةَ: (الأحكامُ تتغيَّرُ بتغيُّرِ الزَّمانِ والمكانِ) ، وإنَّما هذا مُرادُهُم.

وفي هذا إبطالٌ لمسالكِ كثيرٍ من أهلِ زَمَانِنَا ممَّنْ يلجَأُ إلى فتاوى ناسبَتْ ظرفًا وحالاً ليسَ بظرْفنَا وحالِنَا يُريدُ أن يجعلَ تلكَ الفَتَاوى كأحكامِ الله الثَّابتَةِ!

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص218):

«وليسَ في هذا أنَّ قول الواحدِ منهُم في مسألةٍ فقهيَّةٍ اجتهاديَّةٍ يُعتبرُ حجَّةً في الدِّين، وإن وجبَ على النَّاسِ له فيها السَّمعُ والطَّاعة حفظًا لكلمةِ المسلمين من التَّفرُّقِ، ولا شيء أبلغُ دلالةً على ذلك من وقوعِ الاختلافِ بين الأربعةِ أنفُسهم، فليسَ كلُّ ما قضى به أبوبكر قضى بهِ عُمرُ، ولا كُّلُّ ما قضى به عُمرُ جرى عليه عثمان أو عليُّ رضي الله عنهم، كما أنَّه ليسَ كلُّ ما أفتَوا به وافقهُم عليه ابن مسعودٍ أو ابنُ عبَّاسٍ أو ابنُ عمرَ، ولو كانَ الحديثُ يعني أنَّ أقوالهُم الاجتهاديَّةَ دينٌ للأمَّةِ بعدَهٌم لكانَ هذا من نسبةِ التَّناقُضِ للدِّينِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص220):

«‌‌الدليل التاسع

الاستصحاب

* تعريفه:

لغةً: طلبُ المُصاحبَةِ واستِمرارُهَا.

واصْطلاحًا: جعلُ الحُكمِ الَّذي كان ثابتًا في الماضِي باقيًا على حالِه حتَّى يقومَ دليلٌ على انتقالِهِ عن تلكَ الحالِ.

ويُسمَّى (دليل العقلِ) ، وهوَ معنَى مستقرٌّ في تصرُّفاتِ جميعِ النَّاسِ، فإنَّهُم إذا علمُوا وجودَ أمرٍ بنَوا أحكامَهُم فيما يتَّصلُ بذلكَ الأمرِ على أنَّهُ موجودٌ حتَّى يقومَ بُرهانٌ على ضدِّ ذلكَ، وإذا علموا عدَمَ شيءٍ كانَ عدمُه هو الأصلَ حتَّى يثبُتَ وجودُهُ.

فـ (الاستصحابُ) بعبارةٍ أُخرى: بقاءُ ما كانَ على ما كانَ عليهِ حتَّى يثبتَ ما يُغيِّرُه.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص229):

«‌‌1ـ القواعد الأصولية

* تعريفها:

هي قواعدُ لُغويَّةٌ متعلِّقةٌ بألفاظِ الكتابِ والسُّنَّةِ ودلالاتهَا، مُستفادَةٌ من أساليبِ لُغةِ العربِ تُساعدُ المُجتهدَ على التَّوصُّلِ إلى الأحكامِ الشَّرعيَّة.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص232):

«ويندرجُ تحتَ الخاصِّ مباحثُ آتيَةٌ بعدَهُ، هيَ: المُطلقُ والمقيَّدُ، الأمرُ والنَّهيُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص246):

«واعلمْ أنَّ القرينةَ ممَّا يختلفُ في تقديرهِ العلماءُ وجرَى منهاجُهم على اعتبارِ القرينةِ صارِفةً لدلالةِ اللَّفظ عمَّا استُعملتْ فيه في الأصلِ إلى المعنى الَّذي دلَّت عليهِ، وهي قدْ تكونُ صريحةً بيِّنَةً كما في المثالِ المذكورِ، وقد تكونُ خفيَّةً لا تبدوا إلَاّ بالبحثِ والتَّامُّلِ، كما أنَّها قدْ تُستفادُ من نفسِ النَّصِّ، أو من دليلٍ خارجيٍّ، ولا يلزمُ أن تكونَ نصًّا من الكتابِ والسُّنَّةِ، إنَّما يجوزُ أن تكونَ كذلكَ، ويجوزُ أن تستنِدَ إلى قواعدِ الشَّرعِ ومقاصِدِه، ويجري فيها ما يجري على الدَّليلِ القائمِ بنفسهِ من جهةِ الثُّبوتِ والدَّلالةِ، وهذا معنى يغفُلُ عنهُ كثيرونَ فلا يُدركُونَ من المقصودِ بالقرينةِ إلَاّ بالقرينةِ اللَّفظيَّةَ الصَّريحةَ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص268):

«وحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شقَّ ذلك على أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لا يظلمُ نفسهُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليسَ هوَ كما تظنُّونَ، إنَّما هو كما قال لُقمانُ لابنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، [متفقٌ عليه] ، فأجرى الصَّحابةُ الآية الأولى على العُموم بمقتضى لُغتهم ولسانِهم، حتّى بيَّن لهُم النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّ العمومَ هنَا مخصوصٌ.

وفي هذا الحديث من الفائدة كذلك: أنَّ دلالة العُمومِ ظنيَّةٌ بصريحِ قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فهذه براهينُ ظاهرةٌ في صحَّةِ الاستِدلالِ بالعمُومِ، وأنَّهُ مُدركٌ بمقتضى لُغة العربِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص272):

مخصص منفصل

«[2] العقلُ:

كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] أيْ: إلَاّ نفسَه، فهوَ سُبحانَهُ شيءٌ كما قالَ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] ، إلَاّ أنَّ العُقولَ مُدركَةٌ أنَّه الخالقُ، والمخلوقَ غيرُهُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص276):

«ولا يُوجدُ لهذا الطَّريقِ مثالٌ صالحٌ فيه تخصيصُ النَّصِّ العامِّ بالعُرفِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص281-282):

«والتَّحقيقُ: أنَّ العامَّ ظنِّيُّ الدَّلالةِ على ما يدخُلُ تحتَهُ من الأفرادِ، ولعلَّهُ لا يخلو عامٌّ من تخصيصٍ بوجهٍ من الوُجوهِ، والمُتأمِّلُ للأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ يجدُ ذلكَ واضحًا فيهَا، فكيفَ يصلُحُ أن يكون شاملاً لكلِّ فردٍ من أفرادِهِ غير المحصورينَ على سبيلِ القطعِ؟ وفي الأدلَّةِ المذكورةِ آنفًا على حجِّيةِ العُمومِ ما يؤكِّدُ صحَّةَ مذْهبِ الجُمهورِ.»

8 ـ العامُّ حُجَّةٌ بنفسهِ لا يتوقَّفُ القولُ بهِ على البحثِ عن المُخصَّصِ.

«وهذه مسألةٌ فيها قولانِ، هذا أحدُهمَا، والثَّاني: لا يجوزُ الاستِدلالُ بهِ حتَّى ينتفي المُخصَّصُ، لأنَّ احتمالَ التَّخصيصِ واردٌ عليهِ، فهوَ دليلٌ بشرطِ السَّلامَةِ من المُعارضَةِ.

وهذا القولُ الثَّاني ضعيفٌ من جهةِ أنَّ أكثر أدلَّةِ الفقهِ ظنيَّةُ الدَّلالةِ، ليسَ العُموم فقطْ، وطلبُ السَّلامَةِ من المعارضِ مطلوبَةٌ في كلِّ دليلٍ من تلكَ الأدلَّةِ، لكنْ هذا لا يعني التَّوقُّفَ في الدَّلالةِ الظَّاهرَةِ لتلكَ الأدلَّةِ، بل هيَ واجبَةُ الامتثالِ على ما ظهرَ منها حتَّى يوجَدَ خلافُهُ.

لكنْ يُمكنُ القولُ: جدِيرٌ بالفقيهِ التَّثبُّتُ في كلِّ حكمٍ دلالةُ النَّصِّ عليهِ ظنيَّةٌ قبلَ المصيرِ إلى القولِ بذلكَ الحُكمِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص286- 287):

«على أنَّه يُلاحظُ أنَّه مَا مِنِ استِعمالٍ خاصٍّ وقعَ في الشَّرعِ للفظِ من الألفاظِ إلَاّ وتوجدُ صِلةٌ بينهُ وبين المعنَى اللُّغويِّ، غيرَ أنَّه يكونُ «تيسير علم أصول الفقه» (ص287):

«أحيانًا بتخصيصِ ما وردَ في اللُّغة عامًّا، أو تعيين بعضِ معاني المُشتركِ، كما أنَّ الشَّرعَ قد يستعملُ اللَّفظَ استعمالاً شرعيًّا هو نفسُ استِعمالِهِ في لغةِ العربِ.

والمقصودُ أنَّ ما أطلقهُ اللهُ ورسولُه من الألفاظِ وعلَّق به الأحكامَ من أمرٍ ونهيٍ وتحليلٍ وتحريمٍ فإنَّه باقٍ على ذلكَ الاستعمالِ الشَّرعيِّ، لا يجوزُ الخُروجُ به عنهُ إلَاّ بدلالةٍ من الشَّرعِ نفسهِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص289):

«* حكم المجاز:

ذهبَ طائفَةٌ من العُلماءِ إلى نفيِ وُجودِ (المجازِ) في لُغةِ العربِ، وقالُوا: ليسَ هُناكَ إلَاّ الحقيقة، وما يُسمَّى (مجازًا) فهو أُسلوبٌ من أساليبِ العربِ في حقائقِ الألفاظِ.

وممَّن قال بذلكَ: أبُو إسحاقَ الإسفرايينيُّ وأبو عليٍّ الفارسيُّ إمامُ العربيَّةِ، وانتصرَ لهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ، وتلميذُهُ ابنُ القيِّم.

وجمهُور العلماءِ على إثباتِهِ، وأنَّهُ تسميةٌ اصطلاحيَّةٌ لنوعٍ من أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ.

والعلَّةُ عندَ من نفاهُ: ما وقعَ من كثيرٍ من أهلِ البِدعِ من البِدعِ من التَّذرُّعِ بهِ إلى نفيِ صفاتِ الله عزَّوجلَّ والكلامِ في الغيبِ.

لكنَّ التَّحقيقَ قبولُ قولِ الجُمهورِ في إثباتِ المجازِ، وتذرُّعُ أهلِ البِدعِ يُفسِدُهُ عليهِم وجوهٌ أخرى من الاستِدلالِ ليستْ هي إبطالَ القولِ بالمجازِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص296):

«‌‌حقيقة التّأويل

* يطلقُ على معانٍ ثلاثةٍ:

1ـ الحقيقةُ الَّتي يؤولُ إليهَا الكلام .. وعامَّةُ ماوردَ في القرآنِ من لفظِ (التَّأويلِ) فهوَ بهذا المعنَى.».

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص307):

«حكمه:

(المُجملُ) لتعذُّرِ العلمِ بالمُرادِ منه إلَاّ عن طريقِ الشَّرعِ، ولا مجالَ فيه للاجتهادِ، فالأصلُ فيه التَّوقُّفُ حتَّى يوجَدَ تفسيرُهُ من جهةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، فإنْ وُجدَ مُستوفًى لا شُبهَةَ فيه انتقلَ من وصفِ (المُجمل) إلى وصفِ (المُفسَّرِ) من أقسمِ (الواضِحِ الدَّلالةِ) ، وإن بيَّنَهُ الشَّرعُ بعضَ البيانِ مع بقيَّةِ خفاءٍ كانَ من قسمِ (المُشكِلِ) للاجتهادِ فيهِ مجالٌ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص309):

«فجعلَ (المُحكمَ) أُمَّ الكتابِ، و (أُمُّ الشَّيءِ) مُعظمهُ وأكثرُهُ، أمَّا (المُتشابه) فجاء فيه بلفظٍ يدلُّ على التَّقليلِ، وهذا هو المُتناسبُ مع ما أنزل الله تعالى القرآنَ لأجلِهِ، أن يكونَ أكثرُهُ واضحًا لا لبسَ فيه ولا إشكالَ، ما خفِي منهُ على فردٍ علِمهُ الآخرُ، وهذا معنى وصفِ القرآنِ بالهدايَةِ والتِّبيانِ والنُّورِ والضِّياء وماءِ الحياةِ والاستِقامَةِ

فإذا ظهرَ هذا علِمنَا امتنَاعَ دخولِ شيءٍ من الأحكامِ تحتَ معنَى (المُتشابه) .

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص311):

«هذا المِقدارُ كافٍ لإدراكِ حقيقةِ (المُتشابهِ) ، ولولَا أنَّه من مقتضياتِ تتمَّةِ القولِ في دلالاتِ النُّصوصِ، لكانَ جديرًا بأن لا يُذكرَ في (علمِ أصُولِ الفِقهِ) فإنَّه ليسَ من موضُوعِهَا، لأنَّه كما تقدَّم لا يتَّصلُ به شيءٌ من التَّكاليفِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص316):

«* تنبيهان:

1ـ تُسمَّى (دلالة النَّصِّ) بـ (القِياس) تجوُّزًا لوجودِ معناهُ فيهَا، وإن كانَ فهمُهَا لا يتوقَّفُ على اجتهادٍ.

2ـ تُعرفُ (دلالَةُ النَّصِّ) عند العُلماءِ بألقابٍ، هيَ:

[1] مفهومُ المُوافقَة، والوجهُ فيهِ ظاهرٌ ممَّا تقدَّم.

[2] فحْوى الخِطابِ، و (الفَحوَى) المعنَى، ويُسمَّى بهذا إذا كانَ طريقُ الدَّلالةِ بالأولويَّة.

[3] لحنُ الخِطابِ، إذا كانَ طريقُ الدَّلالَةِ المُساواة.

[4] القياسُ الجليِّ، ووجهُهُ عدمُ الحاجَةِ في فهمِهِ إلى اجتهادٍ مع وجودِ صورةِ القِياسِ فيه.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص318):

«‌‌5ـ مفهوم المخالفة

* المقصود به:

إثباتُ نقيضِ حكمِ المنطوقِ به للمسكوتِ عنهُ.

ويسمُّونهُ (دليلَ الخطابِ) ، لأنَّ الخطابَ دلَّ عليهِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص332):

«بلْ أكَّدتِ الشَّريعَةُ حفظَ الدِّينِ بما يزيدُ في الثَّباتِ عليهِ من مُكمِّلاتِ الضَّرورَةِ، فضرُورَةُ الإيمانِ شرعَ لهَا ما يزيدُها تثبيتًا بكثرَةِ الذِكرِ كتسبِيحِ وتهليلٍ وتحميدٍ واستِغفارٍ، وضرورة الصَّلاة شرعَ لهَا من مكمِّلاتِ حفظِها شعيرَةَ الأذانِ لإظْهارِهَا، وصلاةَ الجَمَاعةِ، وهكذَا.

ولا يخفى أنَّ حفظَ الدِّين هو حفظُ سببِ العزَّةِ في الدُّنيَا، والفلَاحِ في الآخرَةِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص338):

«والتَّحقيقُ أنَّ ترتيبَ الضَّروريَّاتِ ليسَ لهُ قانونٌ واضحٌ يُعوَّلُ عليهِ، وهيَ كما أشرْتُ تتفاوتُ باعتبارَاتِ، فلذَا لا يندرجُ ترتيبُها ضمنَ أُصولِ المقاصِدِ، وإنَّما التَّرتيبُ صحيحٌ في ترتيبِ المصالحِ من حيثُ الجُملَةُ.» لعل المؤلف يقصد: (الضروريات فالحاجيات فالتحسينيات).

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص339- 340):

«3ـ (يُرتكبُ أخفُّ الضَّررَينِ لاتِّقاءِ أشدِّهِمَا) .

ومن فُروعِهَا: صلَاةُ فاقدِ الطَّهورينِ الماءِ والتُّرابِ أو العاجز عن استِعمالِهَا بغيرِ طهارَةٍ، والنِّكاحُ وإنجابُ الأطفالِ في بيئةٍ قدْ كثُر فيهَا الحرامُ والشُّبُهاتُ في المكاسِب وقلَّ الحلالُ وندرَ فلا تُتركُ ضرُورَةُ حفظِ النَّفسِ بالنِّكاحِ والنَّسلِ لأجلِ وُرودِ تلكَ المفسَدَةِ، وكونُ الإنسانِ بينَ اختيَاريْنِ: طلبِ العِلمِ في موضعٍ يرَى فيها المُنكرَ ويسكُتُ، أو تركِ ذلكَ والبقاءِ على الجهلِ والأميَّةِ، فالأوَّل مقدَّمٌ في الاختيارِ، فإنَّ طلبَ العلمِ من ضرورَةِ حفظِ الدِّينِ، والسُّكوتَ عن إنكارِ المُنكرِ فيه رُخصَةٌ في أحوالٍِ، ومنها الوُقوعُ في الكذبِ لحمَايَةِ مسلمٍ من الأذَى، وكِتمانُ الإسلامِ أو تركُ إظهارِ التَّديُّن لوِقايَةِ النَّفسِ أوِ الأهلِ أو المالِ من الأذَى.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص341):

«فإنْ قيلَ: خوفُ المفسَدَةِ كيفَ يُساوي المفسَدَة؟ فالجوابُ: أنَّ خوفَ المفسَدَةِ يكونُ لهُ حُكمُها في هذا البابِ وبابِ الإكراهِ إذا كانَ خوفًا راجِحًا قد عُلمَ رُجحانُهُ بالقرائنِ.»

(الضَّروراتُ تُقدَّرُ بقَدرِهَا) هذه القاعدة كالقيد لقاعدة (الضَّروراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ) ص341

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص342):

«6ـ (المشقَّةُ تجلبُ التَّيسيرَ) .

وهذه تعودُ إلى أصلِ رفعِ الحرجِ، وإليهِ ترجعُ مصالحُ (الحاجيَّات) ، ويندرجُ تحتهُ الرُّخصُ الَّتي شُرعتْ تخفيفًا على العبادِ.

وقد سبقَ في (أقسامِ الحُكمِ الوضعِيِّ) بيانُ أسبابِ الرُّخصِ وبعضِ أمثلتِهَا.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص343):

«فإذا كانَ الأمرانِ ليسَ فيهمَا حكمٌ في الشَّرعِ وتردَّدَ فيهمَا نظرُ الفقيهِ ألحقَهُمَا بالأصلِ، وهوَ عدمُ الإثمِ، ثمَّ يُرجِّحُ الأخذَ بأيسرهمَا بناءً على الأصلِ في قواعدِ الشَّرعِ، وهديِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وليسَ هذا فيماَ يقوَى فيه جانبُ الشُّبهَةِ، فإنَّ ما كانَ كذلكَ فطريقُ الفقيهِ فيه الإمساكُ عن إبداءِ الرَّأي، إذْ لا يصحُّ أن يُفتى بمُقتضَى الشُّبهةِ لأنَّها ليستْ حكمًا، وأمَّا في نفسهِ فيترُكُ الشُّبهاتِ ورعًا ما وجَدَ إلى ذلكَ سبيلاً.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص345- 346):

«وإنَّما يقعُ الغلطُ في تصوُّرِ البِدعِ ومعناهَا، وما يدخلُ فيها وما يخرجُ منها بِسببِ تعريفاتٍ ضعيفةٍ ليستْ مُوافقةً في الحقيقةِ لمُرادِ الشَّارعِ بها، فهذا يقولُ: البِدعُ أقسامٌ منها المقبولُ ومنها المردُودُ، ومنهَا الحسنُ ومنهَا القبيحُ، ومنهُم من قسَّمهَا خمسةَ أقسامٍ على الأحكامِ التَّكليفيَّة الخمسة، فقالَ: البِدعُ: واجبٌ، ومندوبٌ، ومُحرَّمٌ، ومكروهٌ، ومباحٌ، ومنهم من قال: هي حقيقةٌ وإضافيَّةٌ، إلى غير ذلكَ.

وربَّما شوَّس في إدراكِ معنى البِدعةِ: التَّوسُّع في إلحاقِ صورٍ كثيرةٍ بالبِدعِ، وكثيرٌ منها من قبيلِ المصالحِ المُرسلَةِ كصلاةِ التَّراويحِ على إمامٍ واحدٍ بعد العشاءِ، والأذانِ العُثمانيِّ، وجمعِ المُصحفِ، وتقنينِ العُلومِ، أو ممَّا يلحقُ بدليلِ الاستصحابِ كقاعِدَة (الأصلِ في الأشياءِ الإباحَة) كصُورٍ كثيرةٍ من العُرفِ، مثلِ الزِّيادَةِ في التَّحيَّةِ على لفظِ السَّلامِ، والتهنئة بالعيدِ، ومنهَا ما يوجدُ على خلاف صُورَةٍ لم تكُن عليها العادَةُ النَّبويَّةُ، كالأذانِ بين يدَي الإمامِ، والزِّيادَةِ في المنبرِ على ثلاثِ درجاتٍ، ونحو ذلكَ.

وهذه الصُّورُ في الحقيقةِ إلحاقُها بالبِدعِ خطأٌ، لأنَّها جميعًا تعودُ إلى أصولٍ صحيحةٍ في الشَّرعِ، وليسَ منها ما هو من قبيلِ الاعتقادِ أو العبادَةِ المحضَةِ.

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص347):

«والَّذي ينبغي مُطلقًا أن لا يُستعملُ لفظٌ يقعُ فيهِ الإيهامُ واللَّبسُ من غيرِ تحديدِ المُرادِ بهِ، وليسَ قومُنا كأصحابِ عُمرَ رضي الله عنه في إدراكِ مُرادِهِ لعل المؤلف يقصد قوله (نعمت البدعة هذه).

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص357):

«وحقيقةُ النَّسخِ تغييرٌ للأحكامِ بتغيُّرِ الأحوالِ والظُّروفِ، ممَّن يعلمُ مصالحَ خلقِهِ تبارك وتعالى، ولمَّا امتنعَ أن يكونَ للعُلماءِ من الإحاطَةِ بالمصالحِ والمفاسدِ في أحوالِ البشرِ كإحاطَةِ علمِ الله تعالى، امتنعَ القولُ بالنَّسخِ بالاجتهادِ، لما يقعُ به من إبطالِ أحكامِ الشَّرعِ المُتيقَّنَةِ بالظَّنِّ، لكنْ للعلماءِ الاهتِداءُ بمبدأ النَّسخِ في مُراعَاةِ الظُّروفِ والمناسباتِ فيما مجالُه الاجتهادُ من الأحكامِ، فيُفتي أحدُهُم في المسألةِ في ظرفٍ يكونُ على خلافِهِ في ظرْفٍ آخرَ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص358):

«ولا ينقضي العجبُ من قولِ بعضِ منْ يُنسبُ إلى السُّنَّة في مسألة (امتناعِ النَّسخِ في الأخبار) : أنَّ النَّسخ ممتنعٌ في الأخبارِ إلَاّ أخبارَ الوعيدِ، فإنَّه يجوزُ فيها النَّسخُ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص361):

«كما دلَّ التَّعريفُ المتقدِّمُ علَى:

أنَّ ما ثبتَ بدليلِ (استِصحابِ الإباحَةِ الأصليَّةِ) ، ثمَّ جاءَ نَصٌّ نقلَ عن تلكَ الإباحَة، فليسَ هذا من قبيلِ النَّسخِ، لأنَّ الإباحَةَ لم تُبنَ على دليلِ بخصوصِ تلكَ الجُزئيَّةِ، إنَّما أُلحقَتْ بدليلٍ عامٍّ وقاعِدَةٍ كليَّة ترجعُ إلى عدَمِ النَّصِّ، فليسَتْ (حُكمًا شرعيًّا فرعيًّا ثبتَ بالنَّصِّ) .»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص369):

«3ـ مع ضرُورَةِ معرفَةِ النَّاسخِ والمنسوخِ للفقيهِ، إلَاّ أنَّهُ لا يُظنُّ كثرةُ وجودِ ذلكَ في أدلَّةِ التَّشريِع، وقد أُلِّفتْ فيه مُصنَّفاتٌ خاصَّةٌ مُفيدَةٌ، وفي كثيرٍ ممَّا ادُّعيَ فيه النَّسخُ ممَّا يُذكرُ في تلكَ المُصنَّفاتِ أو غيرهَا تحقيقٍ، ولاحِظِ انطِباقَ شُروطِ النَّسخِ قبلَ القولِ بهِ، كمَا عليكَ مُلاحَظةَ صحَّةِ النَّقلِ لمَا يعتمِدُ على الرِّوايةِ ممَّا قيلَ فيه ناسخٌ أو منسُوخٌ، فإنَّ القولَ بالنَّسخِ شديدٌ لما فيهِ من إبطالِ العملِ بنصٍّ من نُصوصِ الشَّرعِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص371):

«أمَّا أن يوجدَ ذلكَ في متْنينِ تكافآ قوَّةً من كلِّ وجهٍ نقلاً ودلالةً ووقَ التَّضادُّ بينهُمَا على وجهٍ يستحيلُ الخُروجُ منهُ إلَاّ بإسقاطِ أحدِهِمَا فهذا مُجرَّدُ دَعوى لا يوجدُ لهَا مثالٌ صحيحٌ، والتَّأصيلُ مع استِحالَةِ التَّفريعِ عبثٌ، وهوَ بمنزلة من يزْرعُ بذْرَةً ميتَةً، ونصُوصُ الدِّينِ المُعظَّمةُ مُنزَّهَةٌ عن ذلكَ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص383):

«وكذلكَ معرفَةُ معاني المُفردَاتِ فإنَّه يكفيهِ أن يكونَ عندَهُ مرجعٌ في شرحِهَا مثلُ (لِسانِ العربِ) لابنِ منظُورٍ أو غيرِه، يعودُ إليهِ عندَ الحاجَةِ.»

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص383):

تفسير القرطبي عظيمُ المنفعَةِ غزير العلم.

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص386):

«كما عليهِ أن يُلاحظَ زيادَاتِ الثِّقاتِ في المُتونِ فيعْتنِي بتتبُّعِهَا وجمعِهَا وتحقيقِ ثُبوتِهَا، فلهَا من التَّأثير ِفي الفقهِ والاستِنباطِ ما يُسبِّبُ اختلافَ العُلماءِ كثيرًا».

- «تيسير علم أصول الفقه» (ص388):

«أمَّا فُنونُ العلمِ الخارِجَةُ عنِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ وما يلتَصِقُ بهَا، كالطِّبِّ والهندَسَةِ والزِّراعَةِ والصِّناعَةِ، فلا صلَةَ لها بالاجتهادِ، وإنْ عرضَ للمُجتهِدِ من الحوادثِ ما يحتاجُ إليهَا فيه فإنَّهُ يكفيهِ أن يرجِعَ إلى أهلِهَا يسألُهُم، ويعتمِدُ قولَهُمْ.»